نحن في حاجة إحلال مفهوم “نحن” البناءة بدلا من “الأنا” الهدامة
بدأ منذ أيام قليلة عام هجري جديد ، ويتساءل كثيرون عن العديد من القضايا المرتبطة بالتقويم الهجري وكيفية تحويل رسول الله صلى الله عليه وسلم مجتمع “يثرب” المتصارع والمتفجر بين سكانه إلى مجتمع قائم على المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ونزع فتيل العصبية وعداء الماضي من نفوس الأوس والخزرج بعد أن سماهم الرسول صلى الله عليه وسلم ب” الأنصار” وكيف يمكن الاستفادة من هذه التوجيهات النبوية في إصلاح الواقع الأليم لأمتنا العربية والأسلامية التي أصبحت “غثاء السيل “..من هنا تأتي أهمية هذا الحوار مع الداعية الإسلامي الشاب الدكتور أحمد ربيع الأزهري – من علماء الأوقاف – حول هذه القضايا وغيرها ورؤيته لها.
** يتساءل الكثيرون :لماذا شهر الله المحرم بداية العام الهجري رغم أن الهجرة كانت في شهر ربيع الأول حسب ما جاء في كتب السيرة والتاريخ الإسلامي؟.
*تذكر كتب التاريخ أن التأريخ بهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، كان من التشريعات التي أوجدها الفاروق عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في خلافته، لكن الإمام الطبري يذكر رواية مختصرة لا يُعلق عليها، هي أن النبي صلى الله عليه وسلم “لما قدم المدينة في شهر ربيع الأول أمر بالتأريخ” فكانوا يؤرخون بالشهر والشهرين من مقدمه إلى أن تمت السنة.
اجتهادات فريدة
** في ظل هذا التعدد للآراء العلماء فكيف ترون علة البدء بالمحرم دون ربيع الأول ؟.
*وفقني الله للوقوف على مجموعة من الأسباب وراء اختيار شهر الله المحرم دون شهر ربيع الأول بداية للسنة الهجرية ، وأهمها ما يلي:
أولا: أن شهر الله المحرم يأتي بعد شعيرة الحج الكبري وهي الميقات الأكبر لتجميع المسلمين سنويا حيث المنافع والمحاسبة والمراقبة والرؤية المستقبلية لأحوال المسلمين، والتي ينطلق بعدها الحجيج محملين بنتائج مؤتمر الإسلام الأكبر إلى بلاد وشعوب المسلمين، وقديماً كان الخلفاء يجعلون من موسم الحج ميقاتاً لمحاسبة العمال والنظر في أحوال الأمة ومشاكلها وتطلعات المستقبل، وفي عصرنا ومع إنشاء رابطة العالم الإسلامي بدأت بعقد ما يسمى بـ (ندوة الحج) وإن لم تصل إلى المرجو في هذا الشأن. فناسب المحرم كتوقيت مثالي لبدء العام الهجري.
ثانيا: أننا بذلك نجعل نهاية العام شهر حرام وهو ذو الحجة وبداية العام أيضا شهر حرام (شهر الله المحرم) والأمة إذ تجعل نهاية وبداية العام شهر حرم نهيك أن وسط العام أيضا حرام وهو شهر رجب يدلل على تعظم الحرمات من المبدأ والمنتصف وحتى المنتهى ولكي تستقيم البوصلة على هذا المنهج الرشيد.
ثالثا:أن البداية بالمحرم فيها تحذير من التلاعب بشرعه سبحانه وتعالى، ففي الجاهلية كان العرب يؤجلون الشهر الحرام وهو ما يعرف بالنسيئة، فيتلاعب القائم على حساب الشهور فيضع (صفرا) بدلا من المحرم لاستباحة الدماء والحرب، وكأن الأمة بهذا الاختيار تعلن ثبات قواعدها وعدم تبديل شرعها، فها نحن نجعل من الشهر الذي يغيره المشركون مفتتحا للتقويم حتى ينتفي التبديل.
رابعا: هناك ملمح آخر أن شهر الله المحرم هو الشهر الوحيد المضاف إلى الذات العلي فيقال (شهر الله) وما نُسب إلى الله يرفع نسبه وما يضاف إلى الله يضاف إليه ولايضاف إلى أحد، فكان شهر الله المحرم هو المستفتح.
خامسا:هناك ملمح آخر يبرز لماذا شهر الله المحرم هو بداية العام وليس ربيع الأول؟.أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرمنا بفضل ثواب صيام عرفة بأن يكفر ذنب سنة ماضية وسنة مقبلة، ثم جعل عاشوراء يكفر ذنب سنة ماضية، وعرفة في ذي الحجة وعاشوراء في المحرم فناسب دقة الحساب وسهولته أن نبدأ بالمحرم. فمن صام عرفة تكفر سنة ماضية تنتهي بذي الحجة، ويكفر سنة جديدة على ُبُعد أيام من عرفات، ولأن البعض قد يفوت على نفسه ثواب عرفة بتكفير ذنوبه في نهاية العام بعدم صومه فندعوه لصيام يوم من أيام السنة الجديدة لتكفر به أيضا ذنوب عامه الماضى فكان عاشوراء المحرم، فكان شهر ذي الحجة مختتماً، وشهر الله المحرم مفتتحاً أن نحوز هذا العطاء الإلهي بتكفير ذنوبنا.
سادسا:كما أن البداية من المحرم تبرز أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم هي امتداد طبيعي للرسالة التوحيد، فها هي الأمة تبدأ تقويمها بشهر الله المحرم والذي أنتصر فيه أهل التوحيد (كليم الله موسى عليه السلام وقومه) على الشرك (فرعون وحزبه لعنهم الله)، لتختم بشهر الله ذي الحجة والذي وقف عليه النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم ليعلن إكتمال الدين ولكي نعلم بأن اللاحق ينسخ السابق فيوافق أن المنسوخ أولا والناسخ ثانيا ، فكان المحرم الذي أعلنا فيه بأننا أولى بموسى من اليهود، لنختمه بأن الدين عند الله الإسلام .
صراعات يثرب
** كيف كان حال المدينة قبل الهجرة حبث كانت تسمى يثرب، وكيف يمكن ربطه بواقع أمتنا اليوم؟.
*في خضم الواقع الذي تنقسم فيه البلدان العربية والإسلامية وتتحارب شعوبها ويتقاتل أبنائها يبرز حادث الهجرة للنور مع بداية العام الهجري الجديد ليبرز لنا نموذجاً في صناعة التماسك المجتمعي وبناء اللحمة الوطنية، فالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم هاجر إلى المدينة ومعه المهاجرون الذي تركوا كل شيء خلف ظهورهم لله وللرسوله، وحل في أرضٍ لها تركيبة مختلفة، قبليتين عربيتين بينهما حرب استمرت سنوات وسنوات
يكفي أن يُذكر “يوم بُعاث” لتعود الدماء تغلي في العروق ويطيش العقل وتتقاتل السيوف، وكذلك يوجد بالمدينة يهود في ثلاث قبائل بينهما تنافس تجاري واجتماع على استغلال العرب وترهيبهم بالإضافة لطبقة المنافقين التي ظهرت بعد انتشار الإسلام.
العبقرية النبوية
** كيف تعامل الرسول مع هذا الاختلاف والصراع ؟.
*كان الهدف الأول للرسول صلى الله عليه وسلم هو بناء كيان مجتمعي سليم ينتشر بين ربوعه الأمن والسكينة والسلام والوئام ، فكانت البداية بانتزاع رايات العصبية فخلصهم من كلمة “الأنا” البغيضة فلم يَعُد هناك أوس أوخزرج بل أنصار، أنصار لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، ولكي يجعلهم الرسول يتمسكون بهذا الاسم الجديد أعلنها صراحة أنه في حزب الأنصار وأنه لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق؛ فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله، و لو أن الأنصار سلكوا وادياً أو شعباً، لسلك النبي صلى الله عليه وسلم شعب الأنصار، رغم أن الشعب أضيق من الوادي، ودعا لأولادهم وذرياتهم بالصلاح، فعن غيلان بن جرير قال: قلت لأنس: أرأيت اسم الأنصار كنتم تسمون به، أم سماكم الله؟ قال: بل سمانا الله ”.وعن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال:{ لو أن الأنصار سلكوا واديا أو شعبا لسلكت في وادى الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار، فقال أبوهريرة: ما ظلم – بأبي وأمي – آووه ونصروه أو كلمة أخرى}، وقال صلى الله عليه وسلم أيضا: الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله ، قال صلى الله عليه وسلم: {آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار}.
غرس المحبة
** كيف غرس الرسول صلى لله عليه وسلم روح المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار؟.
*غرس الرسول صلى الله عليه الحب بين الأنصار والمهاجرين والذي جعلهم محل تقدير من أهل الأرض والسماء {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون}.
مؤخاة ليست مبنية على فروق دنيوية من غنى وفقر وقوة وضعف وعز وسلطان وحاجة وإزلال، مؤخاة سمت فوق الفروق فتجد من كان عبد حبشيا أو روميا يتأخى مع سيد من أشراف الأنصار وكلهم سادة وأشراف، فحدثت اللحمة بذلك والإصطفاف وصدق عليهم قول رسول صلى الله عليه وسلم :”المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا”، وشبك بين أصابعه. وقوله صلى الله عليه وسلم:“مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم: مثلُ الجسد، إِذا اشتكى منه عضو: تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى “
مسلك فريد
** ما هي ثمار هذا المسلك الفريد في بناء مجتمع المدينة؟.
* أثمر هذا الصنيع من سيدنا سعد بن معاذ زعيم الأنصار قبل الخروج إلى بدر لمحاربة مشركي مكة على الرغم من أن العهد الذي بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين الأنصار ينص على أن حماية الرسول صلى الله عليه وسلم داخل المدينة ولم تنص على حمايتهم له خارجها عندما قال: “يا رسول ص الله صلى الله عليه وسلم ، صل من شئت، واقطع من شئت، وسالم من شئت، وعاد من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأترك لنا ما شئت. وما أخذت منا أحب إلينا مما تركت ، وما أمرت به فأمرنا نتبع لأمرك . فوالذي بعثك بالحق لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد . وما نكره أن تلقى عدوّنا غدا . إنا لصبر في الحرب ، صدق في اللقاء . ولعلّ الله يريك ما تقرّ به عينك . فسر بنا على بركة الله .
الإخلاص والتضحية
** كيف نستفيد من هذا التفاني في الإخلاص والتضحية لنصرة الدين؟.
*الأمة الآن في أمس الحاجة لهذا المعنى، وأن يتخلى كل فرد فيها عن رايته وحزبه وتياره وينصهر الجميع تحت راية واحدة تعظم قيمة الإنسان وصيانة الأوطان وعمارة الأكوان وتزكية الوجدان ،وقبل ذلك معاني وقيم الإيمان، حتى يكون لنا شأن بين الآنام وليُكتب للأمة طوق النجاة ويبرز لها شعاع النور، وتتحول محنتها إلى منحة، وشدتها إلى شدة وضيقها إلى فرج، وألمها إلى أمل، فالله أسأل أن يحولنا لأمتنا أنصارا ولبلدنا عمارا ولديننا حفاظا ولنبينا أكثر محبة واتباعا.