الدعاء من العبادات التي شرعها الله سبحانه وتعالى لعباده، وهو أعلى أنواع العبادة وأرفعها وأشرفها، وفيه من راحة النفس وانشراح الصدر وطمأنينة القلب ما يفوق الوصف، كما أن له أثرًا في حياة المسلم فكم من عاص هداه الله! وكم من مريض شفاه الله! وكم من فقير أغناه الله! وكم من مكروب أنجاه الله! وكم من مظلوم نصره الله! بسبب دعوة منه أو له، لذا طلب الله تعالى من عباد . القيام بها امتثالاً لأمره، لأنها تقرب العبد من ربه، فينال رضوانه ويسعد بمناجات خالقه جل علاه، قال رسول اللَّه – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الدعاء هو العبادة» ثم تلا قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي …… } [غافر: 60] ، والآية الكريمة قد دلت على أن الدعاء من العبادة، فإنه سبحانه وتعالى أمر عباده أن يدعوه، ثم قال: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} فأفاد بذلك أن الدعاء عبادة وأن ترك دعاء الرب سبحانه استكبار، ولا أقبح من هذا الاستكبار، وكيف يستكبر العبد عن دعاء مَن هو خالق له ورازقه وموجده من العدم وخالق العالم كله ورازقه ومحييه ومميته ومثيبه ومعاقبه؟! فلا شك أن هذا الاستكبار طرف من الجنون وشعبة من كفران النعم، لأن فيه إعراضاً عن كلام الله وصد للناس عن دعوة الله لهم بالطاعة والعبادة، وليعلم المسلم أن الدعاء من سنن الأنبياء والمرسلين، فقد كانوا هم أول من سارع بتلبية نداء الله لهم بالإيمان
هناك أسئلة كثيرًا ما تتردد على لسان بعض الناس، وتفتح بابًا واسعًا للجدل؛ ومنها:
* لماذا يجب علينا أن ندعو إذا كان الله يفعل ما يريد، ويعطي من يريد، حتى أولئك الذين لم يسألوه؟
* وإذا كان كل شيء بقدر، سواء دعونا أم لم ندع، فلماذا إذن لا نقتصر على العبادة دون أن نتعرض للطلب والدعاء؟
* ولماذا ندعو ولا يستجاب لنا؟
وللرد على كل هذه الأسئلة يقول علماء الدين إن الدعاء أحد الأسباب التي أمرنا الله بها، بل ورغبنا فيها وحثنا عليها، وجعلها موصلة إلى مسببها، كغيرها من الأسباب، بل هو من أنفع الأسباب للمطالب الدينية والدنيوية؛ كالمذاكرة توصل إلى النجاح، فهل يريد أحد الطلاب أن ينجح ويتفوق في الامتحان دون مذاكرة؟ ولا يتعارض الدعاء مع الأخذ بالأسباب المادية، فالمؤمن مأمور بالتوكل على الله سبحانه، مع الأخذ بالأسباب لأن الأسباب خلقها الله وسخرها لنا، وهي يد الله الممتدة للعبد لتعينه على قضاء حاجاته ومصالحه، فلا تعارض أبداً بين الدعاء والأخذ بالأسباب، والدعاء نفسه هو من تلك الأسباب التي نأخذ بها في حياتنا ويمتد آثاره إلى آخرتنا، ولله جنود السماوات والأرض
لما اشتد الكرب، وعظم الخطب على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والصحابة – رضي الله عنهم – في غزوة الأحزاب، وبلغت القلوب الحناجر فدعا – عليه الصلاة والسلام – على قريش ومن معهم قائلاً: ” اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب اللهم اهزمهم وزلزلهم ”
فأرسل الله – تعالى – على خيامهم وأمتعتهم ريحًا جعلت تقوض، خيامهم وتكفأ قدورهم، وتنزع أطنابهم، فلا يقر لهم قرار. فنصر الله – تعالى – المؤمنين كما قال – تعالى -: }
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إجَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا”
الذين يظنون أن ما يحصل بالدعاء والأعمال الصالحة وغير ذلك من الخيرات: إن كان مقدرًا حصل بدون ذلك، وإن لم يكن مقدرًا لم يحصل بذلك، هؤلاء كالذين قالوا للنبي “صلى الله عليه وسلم”: (أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب – القدر والمكتوب -؟ فقال: لا. اعملوا، فكل ميسر لما خلق له).
الدعاء من قدر الله
وجاء في السنن أنه ( قيل: يا رسول الله؛ أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقى نسترقي بها؛ وتقاة نتقيها؛ هل ترد من قدر الله شيئا؟ فقال: هي من قدر الله).
ولهذا قال من قال من العلماء: الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، بمعنى الاعتماد والاعتقاد بأن الأسباب تنفع بذاتها، ومحو الأسباب أن تكون أسبابًا تغيير في وجه العقل؛ والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، والله سبحانه خلق الأسباب والمسببات؛ وجعل هذا سببًا لهذا.
فإذا قال قائل: إن كان هذا مقدرًا حصل بدون السبب، وإلا لم يحصل؟!
جوابه: أنه مقدر بالسبب، وليس مقدرًا بدون السبب؛ كما قال النبي “صلى الله عليه وسلم”: (إن الله خلق للجنة أهلًا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم؛ وخلق للنار أهلًا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم)، وقال “صلى الله عليه وسلم”: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة).
أما إجابة سؤال: لماذا ندعو ولا يستجاب لنا؟ فالإنسان الذى التزم فى دعائه الآداب والشروط المطلوبة، كان دعاؤه جديرًا بالإِجابة، فقد حكى لنا القرآن الكريم فى آيات كثيرة، أن الأنبياء والصالحين، عندما دعوا الله – تعالى – أجاب لهم دعاءهم، ومن ذلك قوله – تعالى – (وَنُوحاً إِذْ نادى مِن قَبْلُ فاستجبنا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم).
ويقول مولانا الشيخ الشعراوي إن الله دعاك إلى منهجه فاستجب له أنت أولا إن كنت تحب أن يستجيب الله لك، وإذا استجبت إلى منهج الله ولم يستجب الله لك، فما أدراك أن دعوتك فيها الخير لك، فلعل الخير لك ألا يستجيب الله لك هذه الدعوة، ولعل الله أن يكون قد استجاب لك، ولكنه نحى عنك حمق الدعوة!!
ويقول الله تعالى: {وَيَدْعُ الإنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا} [النحل 11]، ففي لحظة ضيق قد يسارع اللسان بما لا يستسيغه العقل ولا يقره القلب، فيسارع اللسان بالدعاء على النفس أو الولد أو المال، ثم يندم و يتألم على ما فعل بسبب عجلته وضعف عقله.
والله تعالى خلق الإنسان وهو أعلم بضعفه لذا قال: (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ)، ما أرحم الله و ألطفه بعباده، وما أعجل العبد وأضعف عقله!!
وقال الطبري في تفسير قوله تعالى: {وَيَدْعُ الإنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا } [النحل 11]، يقول تعالى ذكره مذكرًا عباده أياديه عندهم، ويدعو الإنسان على نفسه وولده وماله بالشرّ، فيقول: اللهمّ أهلكه والعنه عند ضجره وغضبه، كدعائه بالخير: يقول: كدعائه ربه بأن يهب له العافية، ويرزقه السلامة في نفسه وماله وولده، يقول: فلو استجيب له في دعائه على نفسه وماله وولده بالشرّ كما يستجاب له في الخير هلك، ولكن الله بفضله لا يستجيب له في ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.، عن ابن عباس ، قوله {وَيَدْعُ الإنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا}، يعني قول الإنسان: اللهمَّ العنه واغضب عليه، فلو يُعَجل له ذلك كما يُعجل له الخير، لهلك، قال: ويقال: هو {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا} أن يكشف ما به من ضرّ، يقول تبارك وتعالى: لو أنه ذكرني وأطاعني، واتبع أمري عند الخير، كما يدعوني عند البلاء، كان خيرًا له.
وقد بين لنا العلماء أن هذا من جهل الإنسان وعجلته حيث يدعو على نفسه وأولاده وماله بالشر عند الغضب، ويبادر بذلك الدعاء كما يبادر بالدعاء في الخير، ولكن الله – بلطفه – يستجيب له في الخير ولا يستجيب له بالشر. { وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ}.
كلام العلماء عن فقه الدعاء وفهم معنى وقوعه :,ومن
ما قاله الإمام/ ابن القيم – رحمه الله -: «وكذلك الدعاء فإنه من أقوى الأسباب في دفع المكروه وحصول المطلوب، ولكن قد يختلف عنه أثره إما لضعفه في نفسه بأن يكون دعاءً لا يحبه الله لما فيه من العدوان، فيكون بمنزلة القوس الرخو جدًا فإن السهم يخرج منه خروجًا ضعيفًا، وإما لحصول المانع من الإجابة: من أكل الحرام والظلم ورين الذنوب على القلوب واستيلاء الغفلة والشهوة واللهو وغلبتها عليه كما في مستدرك الحاكم من حديث أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «ادعو الله، وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يقبل دعاءً من قلب لاهٍ» فهذا دواء نافع مزيل للداء ولكنْ غفلةُ القلب عن الله تبطل قوته وكذلك أكل الحرام يبطل قوتها ويضعفها… قال أبو ذر: يكفي من الدعاء مع البر ما يكفي الطعام من الملح».
وقال – رحمه الله تعالى -: «والدعاء من أنفع الأدوية، وهو عدو البلاء يدفعه ويعالجه ويمنع نزوله ويرفعه أن يخففه إذا نزل، وهو سلاح المؤمن. وله مع البلاء ثلاث مقامات:
أحدهما: أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه.
الثاني: أن يكون أضعف من البلاء فيقوى عليه البلاءُ فيصاب به العبد ولكن قد يخففه وإن كان ضعيفًا.
الثالث: أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه».
وقال – رحمه الله الله تعالى – «ومن الآفات التي تمنع ترتب أثر الدعاء عليه: أن يستعجل العبد ويستبطئ الإجابة فيستحسر ويدع الدعاء، وهو بمنزلة من بذر بذرًا أو غرس غرسًا فجعل يتعهده ويسقيه فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه وأهمله».
وقال – رحمه الله تعالى: «وإذا جمع مع الدعاء حضور القلب وجمعيته بكليته على المطلوب؛ وصادف وقتًا من أوقات الإجابة الستة وهو: الثلث الأخير من الليل، وعند الأذان، وبين الأذان والإقامة، وأدبار الصلوات المكتوبات، وعند صعود الإمام يوم الجمعة على المنبر حتى تٌقضى الصلاة من ذلك اليوم، وآخر ساعة بعد العصر؛ وصادف خشوعًا في القلب وانكسارًا بين يدي الرب وذلاً له وتضرعًا ورقة؛ واستقبل الداعي القبلة، وكان على طهارة، ورفع يديه إلى الله، وبدأ بحمد الله والثناء عليه ثم ثنى بالصلاة على محمد عبده ورسوله – صلى الله عليه وسلم – ثم قدم بين يدي حاجته التوبة والاستغفار … وألح في المسألة وتوسل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده، وقدم بين يدي دعائه صدقةً فإن هذا الدعاء لا يكاد يرد أبدًا ولا سيما إن صادف الأدعية التي أخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – أنها مظنة الإجابة أو أنها متضمنة للاسم الأعظم» .
قال يحيى بن معاذ الرازي: «لا تستبطئ الإجابة وقد سددت طريقها بالذنوب»
والله تعالى أعلى وأعلم