علمت منذ زمن أن لكل واحد منا أعداء كثر، وظللت أعواما بعد أعوام أحذر الناس بكل الطرق من هؤلاء الأعداء الذين انحصروا فى أربع؛ على رأسهم النفس الأمارة بالسوء ثم الدنيا بغرورها ومكرها ولا مفر أيضآ من الهوى ثم أخيرا إبليس الذى غوى، وسنبدأ بأخطرهم على الإنسان وهى نفسه التى تأمره بكل بلاء. أما الدنيا فتخبره وتغريه بحسنها وجمالها وأما الهوى فقد صار الكثير خلف أهوائهم حتى أصبحوا عبيدا لهواهم ولم يبق إلا إبليس الذى يمشى فى طريق هلاك العباد.
سأحدثكم عن أخطرهم وهى النفس التى تأمر صاحبها بكل رذيلة، أقول لها: يا نفس لا تتكبرى ستموتى يوما وترحلى، عما فعلتى ستندمى، واحذرى فستقبرى وتُسألى، وتظلى وحدك تصرخى، يا رب عفوك ردنى، وا عجبا! كيف الرجوع وأنت حقا قد رحلتى وتعلمى، أن الحساب قد بدأ، وأنت وحدك فى وحشتك، فى غربتك، الآن أدركت أنى فى عالم نسيت فيه من أنا، لكنى شعرت فجأة بكُربتى، بمصيبتى، بسنين عمر قد مضت، أخذتنى فيها غفلة عن الطريق المرتقب، أين أنا؟! يا حسرتا، ماذا فعلت فى سنين عشتها، جرجرتنى نفسى خلفها، أحببتها فأطعتها فرمتنى فى طريق التهلكة، ثم وسوس الشيطان لى من بعدها فقبلته، أغوانى حتى صرت أمشى على خطى دربه، لم أفكر فى عاقبة فعلتى، هل حقا سأكون خلفه هناك، من أتباعه، ينظر لي وهو يضحك من أنه أغوانى، وقد صدّقته فى حياتى، والآن بعد بعثى وقد وقفت للحساب، يتبرأ منى ويقول لى: لم يكن لى عليك سلطان بل كنت أنت شخص فاسد بطبعك فوسوست لك فأتيت خلفى ببساطة، واليوم نحتفل سويا بعد خطبتى العصماء فى نار تتأجج على العصاة أمثالك! وأسمعوا كلام الله العظيم عندما أخبرنا {وَقَالَ ٱلشَّیۡطَـٰنُ لَمَّا قُضِیَ ٱلۡأَمۡرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمۡ وَعۡدَ ٱلۡحَقِّ وَوَعَدتُّكُمۡ فَأَخۡلَفۡتُكُمۡۖ وَمَا كَانَ لِیَ عَلَیۡكُم مِّن سُلۡطَـٰنٍ إِلَّاۤ أَن دَعَوۡتُكُمۡ فَٱسۡتَجَبۡتُمۡ لِیۖ فَلَا تَلُومُونِی وَلُومُوۤا۟ أَنفُسَكُمۖ مَّاۤ أَنَا۠ بِمُصۡرِخِكُمۡ وَمَاۤ أَنتُم بِمُصۡرِخِیَّ إِنِّی كَفَرۡتُ بِمَاۤ أَشۡرَكۡتُمُونِ مِن قَبۡلُۗ إِنَّ ٱلظَّـٰلِمِینَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمࣱ}. وأما الدنيا فقد فتحت لى ذراعها فضممتها، أحببتها أيضا ووجدتها حلوة المذاق ويسيل من فمى لعابها، لم يبق لى إلا الهوى والله أبدآ ما أرده، فالعيش أصبح هكذا كأس لابد أن أذيقه، لكنى فجأة انتبهت وأدركت حقآ ما يحدث من حولى وأن الحياة حتما ستنتهى، وأن زادى قد فنى ،ياحسرتى، ياويلتى، أين الطريق؟ أين المفر؟ أين أنا؟ ياسيدى وخالقى ومولاى لا تتركني لأعداء تواعدوا جميعا على هلاكى، يا إلهى أدركنى الآن بتوبة نصوحة تطهرنى بها من الآثام، وأمنن علي بعفو منك يا أملى، فلولا ذنوبى ما كانوا علي قد تكاثروا، ولا منى قد تمكنوا، فاغفر لي ما مضى من الخطايا والذلل، فقد أتيت إلى بابك متأملا أن تمحو العلل، فأنا عبد تائب هائم فى حبك، يارب نادم، يارب راغب، يارب قاصد عفوك، يارب أسف، يارب حائر، فافتح لي باب قربك، منك أطلب الوصول إليك، وأسألك الرجوع إليك، فأقبل توبتى وأغفر ذلتى وأستر عورتى، فأنت نعم المولى ونعم النصير، وأنا بك يارب منهم أستجير؛ إمضاء تائب محتاج عفو الرحمن.