بقلم: الدكتور طلعت عبدالله أبو حلوة
أستاذ البلاغة والنقد ووكيل كلية الدراسات الإسلامية والعربية جامعة الأزهر
إن نعمة الوقت في الإسلام تعد من أصول المنن الإلهية، والإنعامات الربانية؛ إذ الوقت هو الحياة، ووعاء العمل، وظرف الفعل، ورأس مال الإنسان، ولقد اهتم الإسلام بهذه النعمة اهتمامًا عظيمًا وبالغًا، ونَوّه بشأنها، ولفت النظر إليها، وحَفَلَ بها الوحيان: القرآن والسنة، فذُكِرَ الوقت في القرآن الكريم بلفظه في قوله تعالى: ﴿قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾ الحجر: 37، 38، كما ذكر بلفظ الدهر، والأجل، والآن، واليوم، وحين.
وسُمّيَتْ بعض سور الكتاب العزيز بأسماء بعض الأوقات، فنجد سورة الفجر، وسورة الضحى، وسورة العصر، وسورة الليل، وسورة الجمعة، ولم يقف الأمر عند حد التسمية، بل وصل الأمر إلى الإقسام ببعض الأوقات، حيث أقسم الله -عز وجل فيما أقسم به في القرآن الكريم – بالليل، والنهار، والفجر، والصبح، والضحى، والعصر، ومن المعلوم أنه من أسباب تسمية السورة القرآنية -فيما تُسَمَّى به- أن يكون المُسَمَّى به أحد محاورها، أو أبرز موضوعاتها، كما أنه من المعلوم كذلك أن الله -سبحانه وتعالى- لا يقسم إلا بالعظيم من مخلوقاته؛ ليلفت أنظار الناس إليها، وينبههم على منفعتها، كل ذلك -وغيره كثير- إن دَلّ فإنما يدل على أهمية الوقت، وعلوّ قيمته، وعظيم منزلته.
ونظرًا لأهمية الوقت في حياتنا فقد شبهه بعض الحكماء بالذهب من حيث الحرص على اغتنامه، وحسن استغلاله، وشبهه بعضهم أيضًا بالسيف من حيث المُضِيّ، وإن كان أغلى من الذهب، وأمضى من السيف، فالذهب قد يُعَوَّض، والسيف قد يعاق طريقه؛ ولذا فقد حثنا الهادي البشير والسراج المنير -ﷺ- على اغتنامه، وحسن استخدامه واستغلاله، فقال: “نِعْمَتانِ مَغْبُونٌ فِيهِما كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ والفَراغُ”، وقال أيضًا: “اغتنِمْ خمسًا قبل خمسٍ: شبابَك قبل هَرَمِك، وصِحَّتَك قبل سَقَمِك، وغِناك قبل فقرِك، وفراغَك قبل شُغلِك، وحياتَك قبل موتِك”، فالمغبون في صحته ووقته هو من لا يغتنمهما ، ولا يحسن استخدامهما، ولا يجيد استغلالهما وصَرْفَهما فيما فيه الخير والنفع والفائدة، والعجب كل العجب من إنسان يضيع وقته ويهدره وهو من أجل النعم، وأعظم المنن، وأَنْفس الآلاء الجديرة بالمحافظة عليها، وحسن إدارتها، والاستفادة منها، ولله در الشاعر يحيى بن هُبَيرة حيث قال:
والوقتُ أنفَسُ ما عُنِيْتَ بحفظه وأراه أسهلَ ما عليكَ يضيعُ
والأيام ثلاثة: هي اليوم الماضي، وهو اليوم المفقود الذي لا يعود، واليوم المستقبل، وهو اليوم القادم والغد الموعود، وما بينهما، وهو اليوم الحاضر، والإنسان المؤمن الكَيّس الذكي هو من يستفيد منها كلها، فينظر إلى الماضي نظر المتعظ المعتبر، فيجني منه الدروس والفوائد، ويقتطف العظات والعبر التي ينتفع بها في حاضره ومستقبله، وينظر إلى المستقبل نظر المستعد المتفائل، والمتأهب المتهيئ للقائه، فيعمل لغده حسابه، ويعد له عدته، وينظر إلى حاضره نظر الحَذِر اليقظ المغتنم، وكأنه يعيش أبدًا، فيبادر إلى عَمَل الصالحات، ويسابق إلى فِعْل الخيرات، ويسارع إلى المغفرة والجنات، ولا سيما الأعمال التي يمتد أثرها، ويتعدى نفعها إلى غيره في حياته، ويظل أجرها جاريًا عليه بعد وفاته، كالصدقة الجارية، والعلم النافع، والولد الصالح، وصلة الرحم، فيطول بذلك عمره، ويُنْسأ له في أثره، ويبسط له في رزقه، أما أن يعيش الإنسان لذاته، ويعمل لنفسه فقط، فذلك من الغَبْن الواضح، والخسران المبين، وصاحبه أجدر بأن يكون هو المقصود والمعنيّ بقول الشاعر:
فذاكَ الذي إِنْ عاشَ لم يُنْتَفَعْ به وإنْ مات لا تَبْكي عليه أقاربُه!
وأما أن يعيش الإنسان سبهللًا فارغًا، فلا هو في عمل الدنيا، ولا هو في عمل الآخرة، فذلك هو الإنسان الحاصد للخيبة والخسارة، والجاني للندم بعد فوات الأوان، وهو التافه المرذول، والساقط من أعين الناس، يقول أمير المؤمنين الفاروق عمر -رضي الله عنه-: “إني لأرى الرجلَ فيعجبني، فإذا سألتُ عنه، فقيل: لا حرفةَ له، سقط من عيني”، ويقول أبو الحسن الجرجاني:
إذا أنــتَ لم تَــزرَعْ وأَبْـصَـرْتَ حـاصـدَاً نَـدِمْـتَ عـلى التَّـفْـريـطِ في زَمَنِ البَذْرِ
والإنسان الناجح هو من يحاسب نفسه، ويجتهد في إحياء وقته، وحسن تنظيمه، وبراعة إدارته، وجودة استغلاله، وعظيم اغتنامه، فيبدأ بالأهم ثم المهم، ويقدم العاجل على الآجل، ولا يؤجل عمل يومه إلى غده، فيرسم لنفسه الطريق الواضح الصحيح، ويضع لها الخطط والخطط البديلة، ويملأ وقته وفراغه بذكر الله، والعمل المفيد الصالح، فينفع نفسه ووطنه.
والعمر الحقيقي للإنسان ليس هو السنين التي يقضيها من يوم ولادته إلى يوم وفاته، وإنما عمره الحقيقي بقدر ما يعمل من الصالحات، ويكتب له من الحسنات؛ ولذا فقد يُعَمَّر الإنسان أكثر من مائة سنة، ولكن رصيده من تقوى الله ضعيف، أو لا يساوي شيئًا، فكأنه عاش أمدًا قصيرًا، أو لم يعش أصلًا، وقد يُعَمَّر قليلًا، ولكن رصيده في سنيه القلائل بعد سن التكليف حافل بالخيرات، وعامر بالأمجاد والأمداد، ووافر بجلائل الأعمال، فكأنه عاش آمادًا طويلة، وأعمارًا كثيرة، وذلك من بركة العمر.
ومن التعبيرات الخاطئة، والتي شاعت على ألسنة بعض الناس الذين يجهلون قيمة الوقت، ويغفلون عن حسابه، ما يعرف بـ ” قتل الوقت”، أو ” إضاعة الوقت”، وذلك ما لا يقبله شرع صحيح، ولا يقره عقل سليم، ولا يتواكب مع عُرْف سديد ومذهب رشيد، وأشد الناس حرصًا على الوقت هم أصحاب الهمم العالية، وذوي الأهداف السامية، وأحوج الناس إلى تنظيمه هم المشغولون من أصحاب المسئوليات؛ وذلك نظرًا لتزاحم الأعباء، وكثرة المسئوليات، فاللهم بارك لنا في أوقاتنا وأعمارنا، وارزقنا الفوز والفلاح والنجاح في الأمور كلها.