مسألة جمع الصلاة في الحَضَر لمن احتاج إليها إما لإنقاذ نفس، مثل من يشتغل بإطفاء الحريق ولا يتمكّن من أن يصلّي كلّ صلاة في وقتها، أو مثلا ًالطبيب الذي يجري العملية وقد تستغرق العملية عدّة ساعات فتضيع عليه بعض الصلوات، أو الانشغال بالمحاضرات أو السكاشن التي تستغرق عدة ساعات متواصلة، أو انشغال العروس يوم الزفاف أو غيرها من الأسباب المانعة من أداء الصلاة على وقتها؟
أقول: أولا: الجمع معناه أن يصلّي المسلم كل فريضة كاملة ولكن واحدة منها في وقت الأخرى، فيصلّي الظهر أربعا والعصر أربعا جمعا غير قَصْر، وكذلك المغرب والعشاء.
ثانيا: الأصل أن تؤدَّى الصلاة في وقتها؛ لأن الله تعالى قال: (إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً) سورة النساء آية 103، وأيضاً لأحاديث مواقيت الصلاة وهي كثيرة جداً بلغت حد التواتر.
ثالثا: ولكن قد تكون هناك مشقَّة لتأدية الصلاة في وقتها في الحضر، فهل هو محل للجمع أو ليس محلاً للجمع؟
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
الأول: وهو مذهب السادة الحنفية ويعتبر أضيق المذاهب في الجمع في الحضر فهم لا يُجوِّزون الجمع لا في سفر ولا في حضر، وإنما يجوّزونه فقط في عرفة ومزدلفة مع الإمام للحاج، وأما ما عدا ذلك فهو عندهم جمع صوري بمعنى يؤخَّر وقت الأولى إلى آخر وقتها بقدر ما يسع الفريضة، ويُعجَّل الثانية في أول وقتها فتظهر في الصورة كأنها مجموعة والحقيقة كل صلاة في وقتها.
الثاني: وهو للسادة المالكية والشافعية فهم لا يجوِّزون الجمع في الحضر إلا للمريض كمن عنده غيبوبة ويفيق في وقت بعض الصلوات دون الأخري، وفي المطر ليلاً أو نهاراً عند الشافعية لمن اعتاد على الصلاة في المسجد، وعند مالك ليلاً فقط لمن يصلي في المسجد، وأجازه مالك أيضاً في الطين دون المطر ليلاً، ويمنعونه لغيرهما.
الثالث: وهو مذهب السادة الحنابلة ويعتبر أوسع المذاهب في هذه المسألة حيث قالوا: الجمع يجوز بين الصلاتين في كل عذر يبيح ترك الجمعة والجماعة، وقالوا: الحاجة والمشقة تبيح الجمع بين الصلاتين، وهذا الرأي قال به بعض السلف مثل: ابن سيرين والخطابي وأشهب وابن المنذر وشيخ الإسلام ابن تيمية، ومن المتأخرين الشيخ محمد رشيد رضا والشيخ أحمد شاكر رحمهم الله، واشترط بعض هؤلاء العلماء ألا يتخذ ذلك عادة.
والراجح: هو ما ذهب إليه الحنابلة بأنه إذا كان يلزم من ترك الجمع حرج ومشقة في الحضر، فإن الجمع جائز ولا بأس به، بشرط ألا يتخذ ذلك عادة مستمرة؛ لأنه خلاف النص القرآني وخلاف أغلب المنقول عن الرسول صلى الله عليه وسلم من فعله، وحثّه على أداء الصلوات في أوقاتها.
والدليل على جواز الجمع في الحضر: ما روى عن ابن عبَّاسٍ قال: جمَعَ رسول اللّهِ صلى الله عليه وسلم بين الظّهْرِ والْعَصْرِ والْمَغْرِبِ والْعِشَاءِ بِالْمدِينَةِ في غَيرِ خَوفٍ ولا مطَرٍ. قيلَ لابن عبَّاسٍ: ما أرَادَ إلى ذلك؟ قال: أرَادَ أنْ لا يحْرِجَ أمَّتَهُ. رواه مسلم.
ومعنى ذلك أن الرسول صل الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين بدون سفر ولا مطر، أي جمع بينهما وهو مقيم، وعلّق ابن عباس رضي الله عنهما على ذلك بأن النبي أراد التيسير على أمّته ورفْع الحرج عنهم إذا ما توافر السبب الذي يشقّ معه الإتيان بالصلاة على وقتها.
وعليه فإذا كان وقت المحاضرة يتزامن مع وقت الصلاة بشكل دائم أثناء الفصل الدرسي واضطر الطالب إلى البقاء في القاعة وقتا يستغرق وقت الصلاة كله، مع عدم إمكان الخروج، كأن كان في امتحان أو عمل متواصل لا يمكن قطعه حتى خروج وقت الصلاة، فإن له حينئذ لا غير أن يجمع مشتركتي الوقت، الظهر مع العصر، أو المغرب مع العشاء تقديم أو تأخير حسب حاله، ولا يجوز جمع العصر مع المغرب لعدم اشتراكهما في الوقت.
وللعروس تقديم صلاة العصر مع الظهر في وقت الظهر، وتنوي تأخير المغرب مع العشاء جمع تأخير في بيت الزوجية. وكذلك الطبيب له أن يجمع الصلاة التي سيضيع وقتها مع أختها المشتركة معها في الوقت تقديما أو تأخيرا. فيصلّي الظهر أربعا ثم بعده مباشرة العصر أربعا، وكذلك بالنسبة للمغرب والعشاء إذا كان الجمع بينهما. والله تعالى أعلى وأعلم.