في بلدي وهي قرية كبيرة من قرى محافظة القليوبية كنت أرى في البيت الواحد يعيش الأولاد والبنات الصغار والشباب في كنف الأب والأم ومعهم في نفس البيت الكبير يعيش الجد والجدة والعم والعمة والخال والخالة وأحيانا زوجة الأب وزوجة الجد والأخت لأب والأخت لأم، وزوجات الأبناء كلهم في بيت واحد وكان ينادي الشباب والصغار كلهم الأم باسمها كما لو كانت أختهم
وينادون جدتهم( أمه) أو (ستي ) ويطلقون على الجد (آبه) وبقية الأجداد والأعمام والأخوال( أبويه فلان)
وللجميع نفس القدر من الطاعة والاحترام والتقدير، وكنت أرى الجدة من أكبر النساء في المنزل سنا وأكثرهن حكمة هي التي تتولى توزيع الأعمال والمهام المنزلية على زوجات الأبناء ويخرج معها الصغار في كل مكان دون استئذان من أمهم وتجلس معهم لتحكي لهم وتعلمهم وتوجههم بشكل طبيعي جدا دون أن تتدخل الأمهات أو تمتعض أو تعترض.
بل كانت الزوجات من الأمهات تذهب للجدة لتشكو لها تصرفات وأخطاء بعض الأبناء لتقوم الجدة بدورها في التوجيه لهم برحمة ورفق وكان الصغير يقبل يد الكبير توقيرا واحتراما وكان الكبير يحنو على الصغير رحمة، ثم عندما دخلت الأزهر الشريف وتعلمت الأحاديث عرفت أن هذه تعاليم الإسلام وليست مجرد عادات وتقاليد بلدي، فهذا الجمع الكبير في المنزل هو امتثال لأمر الله تعالى (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) (24)) الإسراء
فكبار السن مكانهم عندك في بيتك الذي هو بالأصل والأساس بيتهم، والرحمة تنبت في قلوب الصغار من معاملة الكبار وكما أمر الله بعبادته أمر كذلك برعاية الوالدين والأجداد والجدات والأعمام والأخوال والعمات والخالات، وعندما لم يفهم الناس أن معنى الوقوف بين يدي الله خمس مرات في اليوم، أن تقول لله انا مستعد للحساب يارب فأنا أحسن إلى والدي وأتحملهما واحترمهما وأرعاهما واتذكرهما في وقوفي بين يديك وأدعو لهما “رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا”.
الآن تغيرت الحياة وأُلقِيَ كبار السن في دور الرعاية دون رعاية أو يعيشون في بيوتهم وحدهم في وحدة مقيتة ينتظرون الموت في كل يوم ليريحهم من ذكريات التربية الأليمة والتضحية المهينة، وضياع العمر على الجاحدين وفقد الصالحين!
وفي نفس الوقت يقف هؤلاء الأبناء من الجاحدين أمام الله خمس مرات في اليوم ويزيدون في السنن والصوم ليعبدوا الله شكلا، ولا يخجلون من أنفسهم وهم يطلبون منه العون والصحة والستر والرزق والسعادة والبركة ويتناسون أنهم قطعوا عن أنفسهم أسباب البركات بتطبيق العبادة في القول والعمل ( رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ ۚ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا) (26) الإسراء.