بقلم : الدكتور السيد البدوي
عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة والقانون – جامعة الأزهر
لقد كانت هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحبه الكرام وكأنها معنى جديدا استُأنفت من عنده الحياة، إذ الزمان وكأنه توقف برهة ليلتقط أنفاسه بين ركام ظلمات الجهل والعصبية، فقد كاد يزهقها، يخرج بها، حتى لتوشك الحياة أن تنتهي قبل أن توافي نهايتها المقدورة لها في علم الله .
فليبدأ التأريخ للحياة من جديد، متخذا من هجرة النبي –صلى الله عليه وسلم -نقطة انطلاق جديدة للوجود، وهو ما تراه قد فطن له الفاروق عمر -رضي الله عنه- إذ تراه حين أراد أن يضع للزمان –للحياة- بداية لم يتخذ غير الهجرة نقطة بدء، فلا تراه مؤرخا مثلا من: بعثة النبي ولا عند غزوة عظيمة من غزواته، ولا من يوم فتح مشهود من فتوحاته، وكأنه -رضي الله عنه- كان يرى أن التاريخ قبل موفاته هذه اللحظة كان قد جَمُد -عند هذا الحد – فهو لا ينمو، وضاق فلا يتسع، أو هو واقف لا يبرح ، أو كأن ما تقدم على هذه النقطة الزمانية الفارقة من نقاط الزمان لا تُعد في حساب الزمان شيئا، فهي أعوام وشهور وساعات ودقائق وثوان ليس لها أكثر من أسمائها اللغوية، ولا معنى للوقت فيها، أو إن شئت فقل : هي لحظات على هامش الزمان وليست من نفس الزمان .
أيها السادة : إن أمة من الأمم لو ابتغيت أن تتخذ لنفسها زمان تؤرخ من عنده لنفسها -ويكون وقتئذ شارة فخرها، ومنارة عزها، وعلامة مجدها بين الأمم- لم تقصد إلا إلى أقوى نقاط وجودها الإنساني في التاريخ العام، وذلك لا يكون إلا وقد استقام لها مسار نظامها السياسي والاجتماعي والخلقي في نفسها، ولا يكون أيضا إلا وقد استقام تكاملها الإنساني مع غيرها من الأمم، وحيئذ تبادلها إنسانية بإنسانية وقوة بقوة .
ولقد كانت هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- بداية لدولة الإسلام، دولة الهجرة ” المدينة على ساكنها أفضل السلام” والتي صارت بعدئذ أنموذجا للدولة التي استقام لها أمرها في نفسها ومع غيرها .
ويَبِيِن عما سبق: أنه على مدار “ثلاث عشرة” سنة عاشها النبي يعرض دعوته الجديدة على أهل مكة وكأنه حين كان يعرضها، إنما يعرضها على حجارة مكة وصخرها لا على ناسها وأهلها، أو كأنه إنما يعرضها على مجتمع من الوحوش لا من الآدميين، بلغوا معه- صلى الله عليه وسلم -مبلغا فاجرا من الجفاء والحمق والصد والرد .
وأوذي رسول الله في هذا السبيل وأُهين وجُفيَّ وعاضد بعضهم بعضد في مطاردته، فعانى الغربة بين أهله كبيرا، كما عاني اليتم بينهم صغيرا، وصار أمله -صلى الله عليه وسلم- في دعوته يلوح له : مرة قريبا، ومرة بعيدا، ومرة شارقا ومرة غاربا
لكنه لا ينبغي على ماسبق أن يُقرأ الفصل السابق من تاريخ الدعوة المحمدية -فصل ما قبل الهجرة -إلا فصلا إلهيا رائعا من رواية الإسلام العظيم تعمل يد الله فيه بقسوة، وتتجلى حكمته في خفاء .
تلكم الراوية التي بدأت : برجل وامرأة وغلام ثم حر وعبد، أما الرجل : فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأما المرأة : فخديجة أم المؤمنين وأما الغلام : فعلي، ثم الحر: وهو الصديق، وأخيرا فالعبد: بلال -رضي الله عنهم أجمعين- ولعلك تلحظ -وأنا معك- أن كل أطوار البشرية جاءت في الشخصيات السابقة -التي اسْتُهلت من عندها الرواية- أطوارها في: الإنسانية والطبيعة والاجتماع والسياسة وهذا هو مطلع القصيد وأول الرمز في شعر التاريخ .
بدأ النبي بهؤلاء ومعهم لا يألوا، دائبا طالبا قاصدا إلى هداية قومه على مدار الثلاث عشرة عاما ، وهم على مدارها -أيضا -لا يبغونه إلا شرا، فلا يلبث أن يطلب ثم لا يجد، ويعرض ثم لا يُقبل، فيحاول ثم يخفق، فلا يعتريه مع ذلك يأس، ثم يَجْهد فلا يعرف الطريق إليه ملل، ويستمر عازما على جادة الطريق فلا ينحرف ولا يتحول، فكانت الثلاث عشرة له هو ومن معه كعمر طفل واجه من أحداث الأيام -بعد ميلاده- ما أصقله وسبك نفسه وهذَّبه، ثم تسلمته يد الرجولة بمعانيها .
وهكذا يبدو الزمان السابق على هجرة الحبيب وكأنه درسا تربويا فلسفيا يعلم الأمة في شخص النبي -صلى الله عليه وسلم- وأتباعه كيف يجب أن تبدأ وأن تنشأ : مَجْمَع قوتها في إيمانها، غناها في قلبها، تبذل النفع قبل أن تنتفع ، تُبْدع وتبتكر لشأنها فلا تُقَلِد، تستلهم لنفسها من قوة الحياة ما تتهاوى أمامه الشهوات وتتهالك الأهواء .
إنه ما هو إلا الثبات على الخطوة المتقدمة وإن لم تتقدم، وعلى الحق وإن لم يتحقق، والتبرؤ من الأثرة وإن غالبت النفس عليها وأتعبها شحها ، والثبات بعلو أنف في وجه الباطل وإن ساد وغلب، وبغض الضعف وإن حكم وسيطر، وعرض الناس على الخير وعرض الخير عليهم وإن ناقضوه بالشر، وأخيرا العمل- فحسب -للعمل وإن لم يثمر نفعه في مرحلته الراهنة، والواجب للواجب وإن لم يجد الآن شيئا، وبقاء الرجل على الرجولة وإن اتفق كل ما حوله لتحطيمها فيه، هكذا صاغ زمان ما قبل الهجرة هذه الجملة الأخلاقية في محمد النبي –صلى الله عليه وسلم – والقلة المؤيدة له وهي مقبلة، تشيد صرح الإسلام الحديث وترفع أركانه .
ولعلني أُنْتِج مما سبق أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وإن كان لم يظفر بنتائج دعوية ترضيه إذا ما قِيِست بالعدد أو بالتمكن وبسط النفوذ، لكنه مع هذا قد ظفر بنفسه ونفوس أتباعه والتي صيغت بالحوداث الصعبة على يد القدر وعينه، لتنفذ بعد ذلك في الصخر وتجوز في الحجر وتسبح في الفيافي وتخوض عباب الأخطار رامية بنفسها بين لجج الموت لتفوز بالحياة وتنجو بالعقيدة .
إن هذه الفترة الصعبة من حياة الدعوة -وهي في أول حياتها- لتشير بالبرهان الفلسفي والنفسي إلى حقيقة نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأن هذا الزمان: زمان نبي، لا زمان ملك ولا سلطان ولا سياسي ولا مصلح ولا مفكر، إذ لو كان زمان واحد من هؤلاء لكان له من الحيل والأساليب والتدابير ما لو كان أخذ في تصريفها، لأحرز من النتائج التي تُقدَّر وتُحْسَب له وتُرْضيَه في مدة: ثلاث عشرة سنة أكثر مما كان يحرز لو أنه نبي .
لكنها النبوة والدعوة الخاتمة والتي لا يدبر لها أمرها الصُدَف ومُتَفق الأحداث، وإنما يقدر لها “الله” والذي من تدبيره وخفي حكمته أن لا تساير الأمور ولا يدوار الزمن، الدين الجديد -في أول أمره -ونبيه وأتباعه ولا يساير آمال نفوسهم الدعوية، فتستقيم أموره على نحو من سهولة ويسر، فيتابعه الآلاف من سكان هذه البقعة، فها هو ذا -صلى الله عليه وسلم- على مدار ثلاث عشرة سنة لا يتابعه من أهله أكثر مما للأسرة الواحدة لو هي توالدت في هذه السنين، وما ذاك إلا ليثبت له هو وأصحابه أن الأمور لا تصدر عنهم وليست ترد إلى قوتهم وعملهم ولا تتأتي لهم على مايريدون، بل لا تصدر إلا عن الله ومن عمله وقوته، وعلى حسب إرادته سبحانه وتعالى .
لكنني وكأني به –صلى الله عليه وسلم – وهو على ما يُرى لناظريه في حدود نفسه وضيق مكانه خلال الثلاث عشرة عاما – كأني به -يتسع في الزمان من حيث لا يرى أحد ولا يعلم، وكأن شمس اليوم الذي سينتصر فيه كانت مشرقة في قلبه قبل أن تشرق على الدنيا بثلاث عشرة سنة.