متابعة- محمد الساعاتي:

حصل الشيخ محمود الأبيدي، إمام وخطيب الجامع الكبير بمدينتي على درجة العالمية الدكتوراه من قسم الفلسفة الإسلامية والتصوف بكلية الآداب جامعة المنصورة بمرتبة الشرف الأولى مع التوصية بالطبع والتداول بين الجامعات عن رسالته بعنوان”التربيةُ الروحيةٌ بين رينيه جينو”عبد الواحد يحيى” وعبد الحليممحمود دراسةٌ تحليلةٌ مقارنة” وتكونت لجنة الإشراف والمناقشة والحكم على الرسالة من الأستاذِ الدكتور إبراهيم محمد  ياسين ـ  مؤسسِ ورئيس قسمِ الفلسفةِ بكلية الآداب بجامعة المنصورة، وفضيلة الأستاذ الدكتور/ نظير محمد عياد، مفتي الديار المصرية، ورئيس الأمانة العامة لهيئات ودور الإفتاء بالعالم، وأستاذ العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر، والأستاذ الدكتور عبدالغني الغريب طه راجح ـ أستاذ ورئيس قسم العقيدة والفلسفة الأسبق بكلية أصول الدين بالزقازيق ـ جامعة الأزهر

أنتهى الباحث إلى أن العالمين جليلين روحانيين صوفيين مسلمين، أسهما بنصيب وافر في التراث الصوفي الأخلاقي والتربوي. وتبين للباحث أن الشيخ عبد الواحد يحيى الذي كان فردًا مسيحيًا قد ترك بلاده، واعتنق الإسلام، وعاش في مصر حتى وفاته، وأنه  يُمثل كنزًا ثقافيًّا روحيًّا، إلى جانب الشيخ عبد الحليم محمود، فكلاهما قد ترك للمكتبة الروحية عشرات المؤلفات والدراسات، وحفلت الثقافة الروحية عند الشيخ عبد الواحد بالعديد من الثقافات الشرقية كالهندوسية، والبوذية إلى جانب ثقافته الكنسية الأصيلة، وقد نحا الشيخ منحًى فلسفيًا ربما لا نعثر عليه في مؤلفات الشيخ عبد الحليم محمود، وأطلعنا على العديد من المصطلحات التي يبني حولها نظرياته الوجودية من أمثال: الصليب المقدس، والصليب المعقوف، والإمكانية الكلية، ومرتبتي البطون والظهور، ومثلث خاتم سليمان، ومعراج حظ الطول الأفقي، ومعراج الخط العمودي، وكهف القلب.

وأوضح أنه يحتل “الشيخ” مكانة غاية في الأهمية في النظام التربوي عند الشيخين، فالشيخ عبد الواحد يرى أن الإرشاد والتوجيه في أي نظام تربوي يجب إسناده لمن بلغوا المكانة الروحانية السامية، وميز بين طريقتين في التربية: أحدهما: الطريقة الغربية التي أشار إليها بمصطلح ميستيسزم (Myslicism) بمعنى التصوف، أو الدراسات الروحية، واعتبرها دراسة زائفة وانفعالية التي تنتج على كل المؤثرات دون أن تتضمن أي مفهوم عقائدي، بينما التربية في التصوف الإسلامي تسمح للإنسان بالتوجه نحو منهجية دقيقة ورقابة دائمة لا تزول، بينما يتعلق الميتسيزم بأحوال عارضة لا تبقى؛ لأنها مؤقتة، كما يرتبط التبليغ عنده بشعيرة ديينية، ويحظى المبلغ بفاعلية روحية مستمدة من تقوى وورع ومجاهدة باطنية، وأما الشيخ عبد الحليم محمود فالتربية الروحية عنده تُمثل التفات عن الغفلة، وحياة الترف والمجون والعبث، واتجاه إلى الله بكل جارحة، وكبح جماح النفس، وسوقها على غير هواها فهي يقظة الفعل، واصطفاء إلهي، وصدق من العبد في التوجه إلى المعبود.

وأشار إلى أنه نظرًا لتعدد الطرق والطرائق، وكونها بعدد الأنفس، يرمز لها الشيخ عبد الواحد بالدائرة ومحيطها، فمثل الطريقة بالشعاع الذاهب من المحيط إلى المركز، ولكل نقطة من المحيط شعاع يتجه إلى المركز، وهذه الأشعة بعدد الأشخاص واختلاف طبائعهم، ويذهب الشيخ عبد الحليم محمود إلى الأخذ بما جاء عند الغزالي وغالبية الصوفية في وصفهم للطريق والطريقة باعتبار الهدف الأسمى لكل طريق هو التحقق بالعبودية الخالصة، وهو منازل السائرين بين إياك نعبد وإياك نستعين، كما هو الحال عند الهروي وهو تخلي عن النفس، ومراقبة لله، ومعية دائمة مع الله، وقصد إليه بتجاوز الذكر بالعزل، وتجاوز الفكر بالعمل، وتجاوز الفقر بالشكر، وآية الحب الإلهي بغض الدنيا والوصل بالمحبوب.

الظاهر والباطن

وكشف الباحث أن الشيخ عبد الواحد يحيى يرى أن علم الظاهر هو علم الباطن سواء، ينبعان مباشرًة من مصادر شرعية في القرآن والسنة، ومهما كانت التشابهات بين التصوف الإسلامي والمذاهب الأخرى فهذا أمر طبيعي، ذلك أن الجانب الروحي فطري في النفس البرية، ويظل التصوف ذوقا وكشفا، ولا يجوز الأخذ بآراء المستشرقين الذين حاولوا رده إلى مصادر رهبانية، أو أفلاطونية، أو زرادشتية، أو فيدا الهنود، فقد هدم الشيخ كل هذه الادعاءات على زعم أن الإنسان قد يكون ملمًّا بالعديد من الثقافات، ومع ذلك لا يتأثر بها، وهكذا يتشارك الرأي مع الشيخ عبد الحليم محمود الذي يُقرر أن التصوف حالة وجدانية يُصاحبها الخوف من المجهول، والسعي إلى مرضاة الله، والكشف عن المعاصي، والرغبة في الفوز بالجنة، كما أن القلب عند الشيخين وغيرهما من أمثال أبي حامد الغزالي لطيفة ربانية لها بالقلب تعلق، ويرى الشيخ عبد الواحد أنه يصح أن نُطلق على القلب مصطلح(الكهف) باعتبار القلب مركزًا روحيًّا يُؤثر في الناحية السلوكية، ومنه تنبع إرادة الانخراط في السلوك الروحاني، ولما كان القلب أشبه بالقلب الكوفي؛ كان له بابان، باب للدخول وباب للخروج، فأما باب الدخول فيسمى أحيانًا باب العباد، وأن الفناء انعتاق من الأنا عند الشيخ عبد الواحد، وليس انعتاق من الهو، والانعتاق من الأنا يكون بزوال الوهم، الذي يُخيل للعبد أنه يعود عن البقاء لأنه في معية دائمة مع الله.

لاحظ الباحث أن الشيخ عبد الواحد يحيى تناول العديد من نظريات التصوف الفلسفي، التي عزف عنها الشيخ عبد الحليم محمود من أمثال نظرياته في المراتب الوجودية، ووحدة الوجود التي يقصد بها التوحيد الخالص، والمراتب المتعددة التي تقود إلى مرتبة الألوهية المسبوقة “بالطمس”،أو”العماء”، أو الهدم اللا معدوم، الذي يتلقى أمر الإيجاد فيتحول من عدم إلى وجود، على عكس العدم الذي يتحدث عنه الشيخ عبد الحليم محمود، فالعدم عنده إعدام الموجود، وكل موجود إلى الهدم، فالكل دون الله عدم، وكل العوالم إلى محو واضمحلال، والعالم كله بدون الله عدم، في حين يتفق الشيخان على وحدة الذات الإلهية وحدة مطلقة، وينفون عنها الكثرة، وما المراتب الوجودية المتعددة إلا مراتب معنوية لا حسية، وأما مرتبة الذات الإلهية فهي أم المراتب الكونية، وهي الجامعة لأمهات مراتب الوجود، ويطلق عليها العديد من الأسماء، فهي مرتبة البطون التي تتضمن الهوية، والاستمرار للكائن، بينما مراتب الظهور تندرج ضمن مراتب الوجود الظاهر، الذي يُفيد من تجليات الظهور الكلي بكثرة غير محدودة، وفي رأي الشيخ عبد الحليم محمود فإن ما يُشاهد في الوجود من كثرة إن هو إلا تجليات الوجود المُطلق في الوجود المشاهد، أو إن شئت قلت: هي تجلبات، وشئون إلهية.

وأنهى الباحث رسالته بالتأكيد على أن الشيخ عبد الواحد يُعبر عن معراج الكمال بمسميات تتناسب مع أفكاره المحملة بثقافات متعددة من التراث الهندوسي وغيره، فقد تحدث عن الانبساط التاسع، والمعراج الرافع في محاولة مستمرة لاستبدال مصطلحات ابن عربي بأخرى من بنات أفكاره، بديلًا عن معراج التحليل الصاعد والهابط، وقد تحول معراج الكمال والأمر الإلهي القاضي بوجود إنسان كامل إلى مفهوم استفادة الشيخ عبد الواحد من العلم العيسوي عند الشيخ محيي الدين بن عربي، فيراه مُتعلقًا بخطي الطول والعرض، والفروض والنوافل، وكذلك يتعلق بالكلمة الإلهية أو اللاهوت أو الحقيقة الأحمدية، أو عالم الغيب تعلقا بين الفرائض وخط الطول، بينما النوافل وخط العرض يتناسبان مع خطي الإسراء الإلهي، أو صدى الكلمة الإلهية أو المظاهر الخلقية، أو الناسوت الذي هو الكامل على الحقيقة، وهو النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

 

 

Welcome Back!

Login to your account below

Retrieve your password

Please enter your username or email address to reset your password.