بقلم ا.د. آتابك محمديوف
نائب المدير بمركز الإمام البخاري الدولي للأبحاث العلمية
اليوم، ونتيجة للإصلاحات التي تجرى في المجال الديني بقيادة فخامة الرئيس لجمهورية أوزبكستان شوكت ميرضيائيف، هناك فرصة لدراسة التراث العلمي بشكل عميق للعديد من العلماء الذين خرجوا من بلدنا وقدموا مساهمة لا تقدر بثمن في تطوير العلوم العالمية. كما أصبح اعتماد فخامة الرئيس في 14 مارس 2025 لقرار “الاحتفال على نطاق واسع بالذكرى 1155 لميلاد الإمام الماتريدي” أحد الأحداث المهمة في حياتنا الروحية.
وذلك لأن هذه الوثيقة ستعمل بلا شك على تشجيع المزيد من الدراسة الشاملة والمتعمقة لمسار حياة العالم العظيم وتراثه العلمي والروحي الغني، وتعزيز مبادئ التسامح والاعتدال المتأصلة في مدرسة الإمام الماتريدي بين شعبنا والمجتمع العالمي، وتثقيف الجيل الأصغر بروح القيم الإسلامية الحقيقية مثل التسامح بين الأديان، والاحترام المتبادل، والسلام، ودعم البحوث العلمية التي تهدف إلى تعزيز الأفكار الإسلامية المعتدلة بين السكان.
وفي هذا الصدد، من المقرر أن يُعقد في الأيام الأخيرة من شهر أبريل/نيسان في مدينة سمرقند القديمة، حيث وُلِد ونشأ العالم الكبير، مؤتمر دولي علمي وعملي حول موضوع “الماتريدية – مدرسة التسامح والوسطية والمعرفة”. ومن المتوقع أن يشارك في هذا المؤتمر المرموق أكثر من 100 عالم ومفتي وخبير وباحث بارز من جميع أنحاء العالم من خلال تقديم محاضراتهم.
نشأت المدرسة الماتريدية مستندة إلى آراء الإمام أبي منصور الماتريدي في المسائل العقائدية، وهي إحدى التيارات الفكرية الرئيسية المعروفة بأهل السنة والجماعة في التاريخ الإسلامي. والشخص الذي أسس هذه المدرسة وشكل أفكارها الرئيسية هو الإمام أبو حنيفة. وانتشرت آراؤه على نطاق واسع عبر تلاميذه أمثال أبي يوسف، ومحمد بن الحسن الشيباني، وأبي مطيع البلخي، وحماد بن إسماعيل رحمهم الله تعالى. وبعد تعيين أبي يوسف قاضياً في بغداد، عمل القضاة المرسلون إلى خراسان وما وراء النهر على نشر تعاليم أبي حنيفة على نطاق واسع. وقد أسسوا المدارس وساهموا في تخريج العلماء الحنفية والفقهاء.
وُلِد الإمام أبو منصور الماتريدي حوالي عام 852م في محلة “ماتريد” بالقرب من سمرقند، وتوفي سنة 944م ودفن في مقبرة العلماء بمحلة جاكرديزة بسمرقند. كتب الإمام الماتريدي العديد من المؤلفات، غير أنه وصل إلينا اثنان منها: تفسيره “تأويلات القرآن” (أو “تأويلات أهل السنة”) وكتابه “كتاب التوحيد” الخاص بمسائل الكلام السني. على الرغم من أنه لم يُقدَّر كما ينبغي في عصره، إلا أنه اكتسب شهرته من خلال تلامذته وأتباعه.
وكان من بين تلاميذه الحكيم السمرقندي (ت 953م) الذي نال لقب”الحكيم” لأحكامه العادلة والحكيمة. وقد تم قبول كتاب ‘السواد الأعظم’ للحكيم السمرقندي ككتاب رسمي للعقيدة في عصره، وتم تدريسه في المدارس.
ومن تلامذة الإمام الماتريدي أيضا أبو الحسن علي بن سعيد الرستفغني (ت 956م)، الذي وُلِد في قرية “رستفغن” بالقرب من سمرقند. يُعد من العلماء البارزين الذين تبنوا ونشروا آراء الإمام الماتريدي.
كما لعب عالم آخر، وهو أبو الليث السمرقندي (توفي سنة 983م)، دورًا هامًا في ضمان انتشار آراء أبي حنيفة والإمام الماتريدي بشكل واسع. وقد شرح في كتابه “بيان عقيدة الأصول” العقيدة السنية بشكل موجز ومفهوم، كما ساهم في نشر آراء الحنفية والماتريدية من خلال شرحه على كتاب “الفقه الأكبر”. ومن العلماء الآخرين الذين عملوا في هذا الاتجاه هو أبو اليسر البزدوي (توفي سنة 1100م)، الذي وضح أيضًا مبادئ أهل السنة والجماعة في مؤلفاته.
ومن العلماء الذين قدموا مساهمة كبيرة في تطوير المدرسة الماتريدية الإمام أبو المعين ميمون النسفي (توفي سنة 1115م). حيث قام بتنظيم وتعميق أفكار الإمام الماتريدي، فحوّل الماتريدية إلى حركة راسخة ومتينة. ولمؤلفاته “تبصرة الأدلة” و”التمهيد لقواعد التوحيد” و”بحر الكلام” مكانة مهمة في هذا المجال. ومن تلاميذ أبي المعين النسفي أبو الحفص نجم الدين عمر النسفي (ت 1142م)، الذي شرح الأسس العقائدية للمدرسة الماتريدية بإيجاز ووضوح ونسق في كتابه “رسالة في العقائد”. ومن بين تلاميذ النسفي أيضاً علاء الدين السمرقندي (توفي سنة 1144م)، الذي شرح كتاب “تأويلات القرآن” للإمام الماتريدي.
لقد ساهم جميع هؤلاء العلماء مساهمة لا تقدر بثمن في تطوير مدرسة الماتريدي وكان لهم دور فعال في ضمان انتشارها المستمر.
انتشرت الماتريدية على نطاق واسع في أجزاء كبيرة من المنطقة الجغرافية الإسلامية، وخاصة في الصين والهند وباكستان وأفغانستان وآسيا الوسطى والقوقاز والأناضول والبلقان. والإمام الماتريدي هو من العلماء المشهورين الذين أكدوا على ضرورة التوازن بين العقل والنقل. وفي كتابه “كتاب التوحيد” كتب عن ضرورة مقاومة التقليد والاعتماد على الأدلة الشرعية.
اعتبر الإمام الماتريدي أن العقل والرواية هما الطريقان الرئيسيان لمعرفة الدين. وبحسب قوله فإن العقل ضروري لمعرفة وجود الخالق وفهم النص، ولكن العقل لا يمكن أن يكون متفوقًا على الوحي. وقد فسر الإمام الماتريدي العلاقة بين الله والطبيعة وبين الله والإنسان بشكل مختلف، حيث أعطى للإنسان دوراً أكثر نشاطاً في أفعاله. وبحسب قوله فإن الله هو صاحب الحكمة، وفي كل فعل له حكمة. وإن الله لديه الإرادة المطلقة، وهو يفعل ما يريد.
يعتبر العقل والمعرفة والحكمة من المفاهيم الأساسية في نظام علم الكلام لدى الإمام الماتريدي. العقل هو الوسيلة لتطوير المعرفة، في حين أن الحكمة هي هدف التعلم. عندما يطلب الإنسان الحكمة تزداد معرفته، ومع ازدياد معرفته يكتشف حكما جديدة. وفقا للإمام الماتريدي، فإن الكون يتكون من طبائع مختلفة، ولكل منها حكمتها الخاصة. هناك مشاكل بين الناس مبنية على المشاعر مثل الشهوة، والحرص، والغضب، والكراهية. ويحتاج الناس إلى إيجاد أساس لحل هذه المشاكل.
قام الإمام الماتريدي في عصره بمحاربة من اعتمد على الرواية فقط ولم يستعمل العقل، ومن قدم العقل على الوحي. وقد حقق في هذا الأمر نجاحاً باهراً، وانتشرت أفكاره وتقييماته في العالم الإسلامي واسعا. وقد اكتسبت يقاعته العلمية وإسهاماته في حل المشكلات بذكاءٍ أهميةً كبيرةً في العلوم الإسلامية.
إن تراث الإمام الماتريدي هو مثال ساطع على رؤية عالمية مبنية على الحقيقة والمعرفة والعقل. وإن الاهتمام بشخصيات عظيمة مثل الإمام الماتريدي فقط هو الذي يتيح الفرصة لفهم الذات وتوجيه الجيل الأصغر إلى الطريق الصحيح، والانخراط في صراع مستنير ضد التطرف والراديكالية، وإيجاد حلول للتناقضات الأيديولوجية المختلفة الموجودة في العالم الإسلامي.