في خطبة الجمعة اليوم ١ أكتوبر ٢٠٢١م من مسجد الإمام البوصيري (رضي الله عنه) بمحافظة الإسكندرية أكد أ.د/ محمد مختار جمعة وزير الأوقاف بحضور سيادة اللواء محمد الشريف محافظ الإسكندرية على أهمية استخدام العقل مستدلًا بنصوص من الكتاب والسنة ، حيث أمرنا الحق سبحانه وتعالى بالنظر والتدبر في كتابه المقروء وهو القرآن الكريم فقال سبحانه: (كِتَـٰبٌ أَنزَلۡنَـٰهُ إِلَیۡكَ مُبَـٰرَكࣱ لِّیَدَّبَّرُوۤا۟ ءَایَـٰتِهِۦ وَلِیَتَذَكَّرَ أُو۟لُوا۟ ٱلۡأَلۡبَـٰبِ) ، كما أمرنا سبحانه وتعالى بالنظر والتدبر في كتابه المنظور وهو الكون، فقال سبحانه: (إِنَّ فِی خَلۡقِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَـٰفِ ٱلَّیۡلِ وَٱلنَّهَارِ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّأُو۟لِی ٱلۡأَلۡبَـٰبِ)، وحثنا على استخدام العقل في التفكر والتدبر فقال تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّیۡلَ وَٱلنَّهَارَ وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ وَٱلنُّجُومُ مُسَخَّرَ ٰتُۢ بِأَمۡرِهِۦۤۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ یَعۡقِلُونَ)، وقال سبحانه: (إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّأُو۟لِی ٱلنُّهَىٰ) ، وقال سبحانه: (إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ یَعۡقِلُونَ)، وقال عز وجل: (إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَةࣰ لِّقَوۡمࣲ یَتَفَكَّرُونَ).
ولأهمية العقل أحاطه القرآن الكريم بسياجات من الحفظ والرعاية ، وجعله الشرع الحنيف من الكليات الست التي يحرم الاعتداء عليها ، ذلك أن العقل هو مناط فهم النص ، وعدم إعمال العقل في فهم النص من أهم أسباب التطرف الفكري.
مؤكدًا أنه لا غنى عن إعمال العقل في فهم صحيح النص وفي تطبيقاته ، وفي إنزال الحكم الشرعي على مناطه من الواقع العملي، كما أنه لا بد من إعادة قراءة النص في ضوء مستجدات العصر .
مشيرًا إلى أن الإسلام فتح باب الاجتهاد واسعًا ، فقد أقر نبينا (صلى الله عليه وسلم) مبدأ الاجتهاد حتى في حياته (صلى الله عليه وسلم)، فعندما بعث (صلى الله عليه وسلم) سيدنا مُعَاذ بن جبل (رضي الله عنه) إِلَى الْيَمَنِ قَالَ لَهُ: ( كَيْفَ تَقْضِي إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟)، قَالَ: أَقْضِي بِكِتَابِ الله , قَالَ: (فَإِنْ لَمْ تَجِدْهُ في كِتَابِ الله؟), قَالَ : أَقْضِي بِسُنَّةِ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وسلم), قَالَ: (فَإِنْ لَمْ تَجِدْهُ في سُنَّةِ رَسُولِ الله؟)، قَالَ: أَجْتَهِدُ رأيي ولَا آلُو, قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ في صدري وَقَالَ : (الْحَمْدُ لله الَّذِى وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ الله لِمَا يُرْضِي رَسُولَ الله)، والمراد بقوله: “ولا آلو” أي : لا أقصر في الاجتهاد والنظر في المسألة.
وفي سبيل بيان ذلك ذكر معاليه نموذجين
الأنموذج الأول : التوكل على الله ، ومن ذلك قول النبي (صلى الله عليه وسلم) للأعرابي الذي سأله عن ناقته : أعقِلُها وأتوَكَّلُ أو أطلِقُها وأتوَكَّلُ ؟ فقالَ (صلى الله عليه وسلم) : “اعقِلها وتوَكَّلْ”، على أن التوازن بين الأخذ بالأسباب والتسليم بقضاء الله وقدره لا يقف عند حدود عقل الناقة مع حسن التوكل ؛ إنما يشمل كل جوانب الحياة ، فعلى الطالب أن يجتهد في مذاكرته ثم يحسن التوكل على الله (عز وجل) في أمر نتيجته ، وعلى الزارع أن يأخذ بأسباب العلم في زراعته ويحسن القيام عليها ثم يحسن التوكل على الله في نتاجها.
وفي ظروفنا الآنية في مواجهة فيروس كورونا نقول : ارتد الكمامة وتوكل ، نظف يديك وتوكل ، تجنب المصافحة وتوكل، حقق التباعد الاجتماعي وتوكل ، خذ بجميع الأمور الاحترازية والإجراءات العلمية والطبية وتوكل ، وهكذا في سائر الأمور الحياتية ، وبهذا نكون قد فهمنا وحققنا وطبقنا معنى قول نبينا (صلى الله عليه وسلم) “اعقلها وتوكل ” .
الأنموذج الثاني : القصد في المشي ، حيث يقول الحق سبحانه وتعالى على لسان لقمان (عليه السلام) في وصيته لابنه ” يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ الله لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ “.
فالقصد في المشي هو الاعتدال وعدم الخيلاء فيه , وذلك لا يقف عند حدود الماشي على قدميه ، إنما يعني القصد في المشي وعدم الاختيال مطلقًا ، سواء أكان الإنسان ماشيًا على قدميه أم مستقلا دراجته أم راكبًا سيارته ، بل إن الاختيال بالسيارة أشد جرمًا من الاختيال بالمشي على القدمين ؛ لما في الثاني من كسر نفوس الفقراء ، وأسوأ ما في ذلك أن يصل الاستعلاء بالنفس إلى تجاوز القوانين المنظمة للمرور والسير ، مع أن الالتزام بقواعد المرور العامة إنما هو للحفاظ على حياتك وحياة الآخرين مما يتطلب أن تلتزم بالسرعات المقررة وبإشارات المرور وتعليماته وبآدابه وأحكامه دون أن يستعلي أحد على الآخرين بسيارته الفارهة أو بدراجته الأحدث.
والحق سبحانه وتعالى يقول :” وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا ” ، فالغاية والمقصد إنما هو النهي عن التكبر على خلق الله والاستعلاء عليهم بأي نوع من أنواع الاستعلاء ، والمشي في الآية هنا ليس مقصودًا به المشي على القدمين فقط ، وإنما المقصود به النهي عن مطلق الاختيال والعجب والغرور بالنفس ، وقد سئل أحدهم: ما السيئة التي لا تنفع معها حسنة؟ فقال : الكبر.
مختتما معاليه بالتأكيد على أهمية فهم مرامي النصوص ومقاصدها، محذرًا من المتحجرين الذين يقفون عند ظواهر النصوص لا يتجاوزن الظاهر الحرفي لها ، فيقعون في العنت والمشقة على أنفسهم وعلى من يحاولون حملهم على هذا الفهم المتحجر، مشيرًا إلى أن الإمام أبا حنيفة (رحمه الله) صاحب مدرسة رائدة لإعمال العقل في فهم النص.