المحبة والتعايش .. نقطة تلاقى كافة القيم الأخلاقية والسمو على كافة الاختلافات
إيهاب نافع
أكد فضيلة الدكتور محمد بشاري، الأمين العام للمجلس الإسلامي العالمي للمجتمعات المسلمة أن كتابه الجديد “سؤال التسامح .. مدخل لبناء نسق إنساني حضاري” الصادر عن دار ثقافة، محاولة حثيثة لبناء نسق إنساني حضاري يرتكز على قيمة “التسامح”، كأساس خصب ومتجذر، تبنى عليه لاحقاً كافة المسارات الخلقية والسلوكية الناهضة بالمجتمعات، ومحاولة لبعث الإحساس بالحاجة البشرية الحقيقية، وتفعيل قيم الأنسنة في حياة الواقع التي تتعدى الكتب والمناظرات، في سبيل تسخير الإمكانات، والدفع بالأخلاقيات، التي تساعد بني الإنسان، للتغلب على كل المخاطر التي تحدق بأنظمته الاجتماعية ونسق تعايش كل مكوناته المجتمعية.
وأولي الكاتب في المرتبة الأولى بالغ الأهمية، لتفكيك المدلولات ذات الصلة، والسبر في ما تتجاوزه الدلالة وترتبط به، منتقلاً لتحسس تضاريس الواقع المتوارث عبر الأجيال، من خلال عرض ماهية بناء ذلك النسق الإنساني الحضاري، داخل إطار يتناول التسامح بمنظور أعلام وفلاسفة المسلمين، إغناءاً لفحوى الكتاب بالأطروحات الفكرية المشبعة، بالخبرات المتنوعة، المبنية على جهود ذهنية عميقة مستندة لحصاد واقعي خصب، ساق لاعتبار قيمة التسامح ثمرة ناضجة على أغصان المنطق، ودرة من قلب مقاصد النصوص الدينية الداعية للرحمة، والتعايش وتحقيق مصالح الأفراد، والحث على الانتقال من ضيق خطابات التضييق وتأجيج الكراهية والصراع، لفسحة التسامح والتعايش والمحبة باعتبارها نقطة جوهرية وضعها الإسلام عابرة للقارات، وسامية علي كافة الاختلافات، ونقطة تتلاقى عندها القيم الأخلاقية.
ولإثبات أصالة هذه القيمة الخلقية الإنسانية، أصر المؤلف على عقد نطاق يتدارسها بين سنداني الفلسفة والمرجعيات الدينية، معيداً صورة القيم الأخلاقية السائدة في المدارس الفلسفية، ومدى استيعاب ركائزها في “دستور الفلاسفة”، و “شريعة الأديان” ، التي اتفقت متحدةً على رفض الهمجية، والنزوح نحو التسامح، سيما أن الوصول لما يعنيه في مضارب الفلسفة، وجذور الأديان، يستدرك ما وقعت به الكثير من المجتمعات من رخاوة أسسها الأخلاقية والقيمية المحددة لطبيعة العلاقات.
كما يسلط الكاتب الضوء في الفصل الرابع، على التسامح في المواثيق الأممية والقانون الدولي، باعتبارها خلاصة الاستجابة للتداعيات العالمية الصعبة المختلفة، والتي آلت لخروج نواتج نقيضة لنهضة المجتمعات، ومزعزعةً من بنيانها وتناغم تعايشها؛ ومحدثةً العديد من الترهلات القيمية في كيفية تناول الأخلاق الضابطة والقوانين الموحدة في المجتمعات. من خلال عرض ردود الفعل الإنسانية “الدولية”، المجابهة لذلك على أرض الواقع بالاستناد لقوة التشريع المبني على دوائر التعايش والتسامح، وصولاً لإدراك طبيعة الرهان المستطيل الأطراف، والممتد عبر التاريخ الإنساني، على الاستجابة لإرادة الشعب، وصون الاستقرار والأمن على أراضي الدول وفي عصب شعوبها، والقدرة على تشكيل الأنظمة السياسية، المتلائمة وسنة الحياة المحتمة بالتغيير والتطور، والإبقاء في كافة الأحوال على “دستور التسامح” واضحاً وبارزاً وحازماً.
ونزولاً عند ذلك التأصيل العميق، يقف الكاتب في خامس فصول الكتاب، على استعراض العديد من المبادرات العربية والإسلامية، التي شكلت رافداً قوياً في تعزيز قيم التسامح، من خلال تقديم دراسة ممحصة لوثيقة الأخوة الإنسانية، التي مثلت عقد محبة ورسالة سلام عالمية، ووثيقة مكة المكرمة، وما فيها من أصالة روحية وريادة فكرية، إضافة لما أضافته وثيقة التسامح الفقهي والإفتائي، من إضافة نوعية في مدارج الفقه والتأهيل الفقهي والافتائي، ناهيك عن استعراض الانعكاسات العميقة التي نتجت عن “كلمة سواء” مقدمةً عقد أخوي انساني، والتزام تحت نص المحبة والوئام.
أما في سياق التعميم الواسع للقيم الأخلاقية والسلوكية، فينتقل الكاتب في عرض مبادرات التسامح للمغرب العربي، باستعراض “إعلان مراكش”، كمحاولة لمد كف السلام والاحترام لكافة المجتمعات المسلمات، واستنكار أي من المخالفات الإنسانية بحقهم، وتوثيق مفاصل الإطار الشرعي، الذي ينظم ويوضح حدود المواطنة التعاقدية. التي تعتبر حلقة رصينة للمصالحة والموائمة، فيما بين الانتماء الديني، والدولة الوطنية المعاصرة.
كما يحاول الكاتب إثبات وجهة نظره المبنية على كثافة من الإرهاصات والخبرات وصولاً للمادة الأولى التي يقوم عليها العماد الإنساني (الأخلاق)، في الفصل السادس، مستكملاً عرض التجارب القيمية على مستوى الأفراد، ومدرجاً العنصر النسوي الأصيل، ودوره الوثيق بارز الملامح على خط التاريخ، بإدراج لمحات من سيرة (زينب النفزاوية)، إضافةً ل(أم الإمارات)، الشيخة فاطمة بنت مبارك ذات البصمة الواضحة، في إنجازاتها التي مثلت امتداداً وفياً لرسالة الشيخ زايد بن سلطان رحمه الله في إعلاء القيم الإنسانية، وبث روح التسامح لأوسع نطاق. كما يتناول الكاتب في جزء الكتاب هذا العديد من النماذج التاريخية الدافعة بإعلاء القيم الإنسانية، من مثل لقاء ملك المغرب والبابا فرنسيس الثاني، وسمو الفطرة الإنسانية بتتبع ملامح إنجازات مانديلا، وتقديم الإنسانية على النزعة في سيرة الملك محمد الخامس، وغاندي.
وأما في الفصل السابع والأخير، فيحاول الكاتب تقديم إرهاصات إجرائية، لبناء خطة مشروع التسامح الحضاري وصولاً لعالم متسامح دون استثناءات، وموضحاً علو الحاجة إلى ثقافة التسامح، وإبراز ملامح التسامح وما يختلط بينها و دعامات المشترك الإنساني، وبخاصة أنها لا تتضارب مع فلسفة الاختلاف، ولا تنفك عن كونها قيمة فطرية أصيلة غير قابلة للسلخ عن أصلها، الأمر الذي دفع الكاتب لاستعراض أبرز معوقات التسامح، والخروج بخطة استراتيجية شاملة ساعية لرسم ملامحه.
وقد جاء في ختامه: “لقد استحقت التجارب السابقة المتميزة منا العناية الحثيثة، والاهتمام بمعطياتها، التي يسهب أفرادها والتي ستنعكس حتماً على إثراء الخطط القادمة الظمأى للمزيد من التأطير والتوجيه، مختصرةً أميالاً من المسافات، والجهود، والتي تكفل بإنتاج نموذج أقرب ما يكون للمثالية من خلال الجهد والفكر والرؤى المشتركة من ذوي الخبرة، خروجاً بمشروع “التسامح العالمي”، الذي دعت له كافة الأديان، والذي سيحيي إنسانية حقيقية بدلاً من أي نموذج يشبه الإنسان، وذلك نزولاً عند قوله تعالى، وقوله الحق: ” وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ””.
يذكر أن هذا الكتاب حديث العهد صدر عن دار “ثقافة” للنشر والتوزيع، تحت عنوان : (سؤال التسامح: مدخل لبناء نسق إنساني حضاري)، لمؤلفه الدكتور محمد بشاري، وهو مكون من سبعة فصول على التوالي: ( البناء المفاهيمي والدلالي)، و (التسامح بمنظور أعلام وفلاسفة المسلمين)، و(التسامح بين المدارس الفلسفية والمرجعيات الدينية)، و(التسامح في المواثيق الأممية والقانون الدولي)، و(تعزيز قيم التسامح «مبادرات عربية وإسلامية»)، و(الأخلاق مادة الإنسان الأولى)، (ونحو عالم متسامح).