تجربة إسرائيل فى إحياء لغتها بسيطة لكنها احتاجت إرادة
لابد من التعريب لمصلحة العلوم وتدعيم الانتماء
أم كلثوم خدمت العربية وأحيتها أفضل من علماء كثيرين
حوار : مروة غانم
أكد د. ابر اهيم الهدهد- أستاذ اللغة العربية والرئيس الاسبق لجامعة الأزهر، وعميد كلية اللغة العربية سابقا- أن العربية لغة باسلة ولن تستطيع قوة على وجه الأرض أن تضيعها وتقضى عليها، مستشهدا بالغارات والحروب التى تعرضت لها العربية على مر العصور ورغم ذلك بقيت واستمرت لأنها محمية بذاتها وبأمر ربها ولو ترك أمر حمايتها لأهلها لضيعوها.
أشاد د. الهدهد بما قدمته السيدة أم كلثوم للعربية، مشيرا الى أنها خدمت اللغة وأحيتها أفضل بكثير من علماء متخصصين فى اللغة، وحمَّل الإعلام مسئولية الطعن فى اللغة وتقديم أعمال فنية مبتذلة. وطالب بأهمية تعريب العلوم، مؤكدا أن العربية تستوعب كل شئ، ضاربا المثل بتجربة اسرائيل فى إحياء لغتها بعد اندثارها وتدريسها العلوم باللغة العبرية.
”عقيدتى” إلتقت به داخل جامعة الأزهر وناقشت معه كل ما يتعلق باللغة العربية ومشكلاتها بمناسبة الاحتفال باليوم العالمى باللغة العربية باعتباره أحد المهمومين باللغة والمدافعين عنها وفى السطور القادمة نص الحوار.
> هل تتذكر قصيدة حافظ ابراهيم “اللغة العربية تنعى حظها بين أهلها”، هل كان حافظ متنبّئا بما وصلت إليه لغتنا العربية؟
>> أولا وقبل كل شئ لابد من التأكيد على أن اللغة العربية لغة باسلة بكل معنى الكلمة لأنه لو توفرت الحروب التى واجهتها العربية لأى لغة أخرى لانقرضت وماتت وما بقى لها أثر، لكن العربية لغة باسلة إذ بقيت قائمة على أصولها رغم هذه الحروب الشرسة التى واجهتها والتى كانت ومازالت تصدر من أعدائها تارة ومن أبنائها تارة أخرى .
أهم الغارات
> هل يمكن أن تذكر لنا ملامح من الغارات والحروب التى تعرضت لها اللغة العربية؟
>> قبل التطرق لهذه الغارات لابد من الاشارة الى مكانة العربية وما كانت تتمتع به، فبالنسبة للمستوى العالمى، فقبل ما يقرب من مائة عام كان أكثر من 80 % من البشر يكتبون لغتهم بالأبجدية العربية، فاللغات الإفريقية قبل عهود الإحتلال كانت تكتب بالابجدية العربية، وكذلك الحال بالنسبة للغة التركية وقبل مجيء أتاتورك كانت تكتب بالعربية، وكذلك اللغات الأوردية والفارسية والتى مازالت تكتب بالحروف العربية، وكذلك الحال بالنسبة للغة المالوية التى كانت لغة أكثر من ستمائة مليون مسلم فى آسيا كانوا يكتبون لغتهم حتى خمسينيات القرن الماضى بالابجدية العربية، وكأن الاحتلال كره مجرد رؤية هذه الحروف العربية، فما دخل بلدا إلا وأزاح هذا الحرف العربى وأحلّ محلّه الحرف اللاتينى .
> هذا بالنسبة للغارة الاجنبية على لغة القرآن، فماذا عن محاربة العربية من بنى جلدتها؟
>> للأسف الشديد لقد تآمر بعض المنتسبين للعربية مع المحتل الاجنبى وكان لكل طرف خطّته فى محو هذه اللغة! أما الطرف المحتل فقد قاد حركة الدعوة لإحلال العامية محل العربية، ومعروف لدى الكثير ممن قاموا بصنع معاجم للهجة اللبنانية واللهجة المصرية على أنهما لغتان، فهذه الحرب أخذت وقتا طويلا استمر أكثر من أربعين عاما لكنها زالت واندثرت بفضل الله تعالى .
> هل يمكن أن تسوق لنا المبررات التى كان يتبناها دعاة هذا التيار؟
>> هؤلاء الذين كانوا يطالبون بإحلال العامية محل العربية كانوا يروّجون أننا لابد أن نكتب ونتكلم باللغة التى نفكّر بها، فنحن نفكر بالعامية ولابد أن نكتب بها، كما كانوا يروجون كذبا بأن هذا يحدث فى الدول الأوروبية، وهذا غير صحيح ,فهناك فرق كبير بين لغات أبناء الدول الأوروبية الرسمية واللهجات التى يتحدثون بها ورغم كل هذه المحاولات إلا أن اللغة العربية بقيت وصمدت.
أما الحرب الأخيرة على لغتنا العربية فتتمثل فى الدعوة لتعليم العلوم باللغة الاجنبية بدعوى أن هذه العلوم كتبها الغرب وهو من يطوّرها ويحدّثها باستمرار، ولابد أن تنقل إلينا بلغتها لأن لغتنا لم ينتج فيها هذا العلم! ولذا لا يصلح تدريس الطب والهندسة على سبيل المثال باللغة العربية! وهذا الكلام مردود عليه لأن العلم ليس له لغة، ففى الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال يتم تعليم الطب باللغة الانجليزية، ورغم ذلك توجد ولاية تعلم الطب باللغة الأسبانية لأنهم يتحدثون الاسبانية، وكذلك فرنسا فهى تدرس الطب باللغة الفرنسية وليس اللغة الانجليزية، وكذلك الحال بالنسبة لإسرائيل فهى تعلم الطب والرياضيات البحتة والضوئية والكيمياء والفيزياء باللغة العبرية التى كانت لغة عبادات فقط ولا يتعامل بها الناس، فهل هذه اللغة تصلح للتدريس بها واللغة العربية لا تصلح؟! هذا خلل كبير وخطأ فادح نرتكبه فى حق لغتنا.
تعريب العلوم
> هذا يعنى أنك مع تعريب العلوم رغم أن العاملين فى قطاع الطب والبحث العلمى يرفضون ذلك، فما هى مبررات التعريب لديك؟
>> نعم أنا من مؤيدى تعريب العلوم وبقوة ومع البنية القومية، فأنا مع تدعيم الهوية وبنائها عند أبنائنا، واللغة هى من أهم مقومات الهوية وهى وعاء الدين، فالأمم تربّى الانتماء فى مواطنيها من خلال ثلاثة مداخل أساسية وهى: “الدين، التاريخ، اللغة”، وهذا ما يبنى للمواطن شخصية مميزة داخل دولته ويكون أكثر انتماء لها، لكن أن يعيش الانسان فى بلد ويدرس العلوم المختلفة بلغة أخرى، فهذا يزعزع الانتماء لوطنه، وقد ثبت علميا أن الدراسة باللغة التى نشأ فيها الانسان ويتحدث بها تجعله أكثر استيعابا وتحصيلا من أن يتحدث بلغة ويدرس بأخرى، فلمصلحة العلم لابد من تدريس العلوم باللغة العربية، كما أن اللغة العربية تتسع لكل شئ .
> لكن البعض يرى أن هذا الأمر يحدِث فجوة كبيرة فى نقل العلوم وأحدث ما وصل اليه الطب ويجعل البلد التى تدرس الطب بالعربية على سبيل المثال متأخّرة عما وصل اليها من احدث النتائج العلمية فى البلاد الأوروبية؟
>> هذه جزئية هامة ومردود عليها، فسوريا من الدول التى قامت بتعريب العلوم ولديها تجربة متميزة فى هذا المجال ولم تحدث هذه الفجوة كما يدعى البعض، فهناك متخصصون فى الترجمة ينقلون لحظة بلحظة كل الابحاث والنتائج التى يتوصل اليها الطب فى كل دول العالم ولا توجد فجوة بين ما يتم تدريسه وما يتوصل اليه فى الدول المختلفة من اختراعات وابتكارات، كما أن هذه دعوة فارغة لا قيمة لها، فعلى سبيل المثال التليفون الذى نحمله جميعا نستطيع من خلاله ترجمة أى نص للغة التى نريدها حتى ونحن غير متخصصين فى الترجمة .
دعوات إلغاء النحو
> كيف رأيت دعوات إلغاء النحو وعمل قاموس للعامية؟
>> هذه الدعوات كانت من ضمن الغارات التى تعرضت لها اللغة العربية ودورة الهجوم عليها لكنها لم تفلح فلم يبق كتاب إحياء النحو القديم ولا النحو الحديث، كما أن الدعوة لتحيا العربية ويسقط سيبويه لم تؤت ثمارها وسريعا ما سقطت واندثرت .
> وماذا عن قول البعض بصعوبة اللغة العربية وانها لغة معقدة؟
>> هذا ادعاء باطل، فمن يردد هذا الكلام يقصد النحو ويدعى أنه صعب، وهذا غير صحيح على الاطلاق، فعندما نقارن قواعد اللغة العربية بقواعد أى لغة أخرى سنجد أن كفّة العربية سترجح وتكون المقارنة لصالحها، فالفعل على سبيل المثال فى اللغة العربية له ثلاثة أنواع، إما ماضى أو مضارع أو أمر، والماضى مبنى باستمرار، والمضارع معرّب دائما إلا إذا اتصلت به نون التوكيد أو نون النسوة، أما فعل الأمر فهو مبنى دائما. أما اذا انتقلنا للغة الانجليزية على سبيل المثال سنجد الافعال كثيرة، فهناك الماضى البسيط وقواعده، والماضى البسيط التام وقواعده، والماضى التام المستمر وقواعده، هذا مع أن لكل قاعدة شواذ فأيهما أصعب؟ هذا بالاضافة الى الصعوبات فى الصوتيات فى اللغة الانجليزية وصعوبات فى الكتابة فى ظل وجود الحروف التى تُكتب ولا تُنطق وغير ذلك من الاشياء التى لا يتسع المجال لذكرها.
لكن الخلاصة انه اذا ما قارنا العربية بأى لغة أخرى سنجدها لغة سلسة وبسيطة وغير معقدة أما من يدعى عكس ذلك فهو يريد الطعن فيها والنيل منها بلا حجة ولا برهان ولا أسباب ومعطيات علمية .
تعليم عبث!
> وبما ترد على تصريح للدكتور صلاح فضل- رئيس مجمع اللغة العربية- بأن تعليم الأطفال لقواعد النحو فى المراحل الصغيرة يعد عبثا؟
>> هذا ليس اختلافا على تعليم العربية انما اختلاف فى طريقة التعليم ولا خلاف فى ذلك، فهناك فرق كبير بين الاختلاف على الوسيلة والاختلاف على الغاية، فالغاية هى تعليم اللغة العربية، وهذه غاية نتفق جميعا عليها، إنما الوسيلة قد تختلف من شخص لآخر ومن بيئة لأخرى، والقدماء كانوا يعلّمون النصوص أولا ثم يعلّمون النحو بعد ذلك .
المدارس الأجنبية
> وماذا عن وجود المدارس والجامعات الأجنبية فى بلادنا، هل ترى أنها تمثل خطورة على أبنائنا؟
>> بالطبع فنحن صرنا من أشد المحاربين للغة العربية، حيث نتهافت على إلحاق أبنائنا بالمدارس الاجنبية، كما أننا نغرس بداخلهم حب اللغة الأجنبية وتفضيلها على لغته العربية، وذلك باستخدام الكلمات الاجنبية بديلا عن العربية، فى حديثهم معنا ومع بعضهم البعض، وهذا أمر فى غاية الخطورة .
حقيقة مؤلمة
> بم تفسر النظرة المتدنية للغة العربية من أبنائها وتفضيل اللغات الأجنبية عليها، وبما ترد على القول بأن العربية لغة قديمة ولا تصلح للوقت الحاضر؟
>> للأسف نظرة البعض المتدنية للغة العربية حقيقة مؤلمة، ونتجت لأننا فى عصر انهزام، ودائما المنهزم ينظر للمنتصر على أنه القدوة والمثال الذى يسعى لتقليده، حتى أولادنا فى أشكالهم الخارجية بداية من تسريحة شعرهم والألفاظ الاجنبية التى يستخدمونها فى حديثهم وملبسهم الذى يرتدونه صاروا مقلِّدين للغرب! ودائما صاحب الفكر الانهزامى يرى ذاته مع المنتصر، لكن خيبتنا الأساسية هى أننا أخذنا الشكل وتركنا المضمون! فالانسان الغربى الذى تراه يأتى بالمنكرات فى إجازته الرسمية لا يضيّع لحظة واحدة بدون عمل طوال الاسبوع، ومنضبط فى عمله لأقصى درجة، لكننا أخذنا الشكل وتركنا المضمون .
> بعض الدول تمنع بل تجرّم تعليم الاطفال أى لغة أجنبية قبل إتقانه لغته الاصلية، لكننا لا نفعل ذلك، فهل ثمة خطورة على أطفالنا من تعليمهم اللغات الاجنبية فى المرحلة الابتدائية؟
>> هذا صحيح، فدولة اليابان على سبيل المثال تحرّم التدريس بأى لغة غير اليابانية قبل سن 14، حتى يتشرّب الطفل لغته، لكن العكس يحدث عندنا، فنحن نعلم الأطفال اللغات الأجنبية بمجرد الإلتحاق برياض الأطفال، وهذا يمثل خطورة كبيرة كما سبق وأشرت، والخطورة تتمثل فى الانتماء للوطن والدين وما على العالم إلا أن يبرىء ذمته بالكلام وإظهار السلبيات وخطورة الأمر والمسئول لا تبرأ ذمّته إلا بالعمل، فكل يقوم بمسئوليته وولى الامر ينفّذ مسئوليته .
> هل تخشى على الفصحى من الاندثار أم أن الله حافظها ولن يضيعها؟
>> قلت عليها “لغة باسلة” فى بداية الحديث لأنها صمدت وبقيت رغم كل هذه المحاولات للقضاء عليها، فالهجوم الذى واجهته العربية لم يحدث مع لغة أخرى، ولما حدث بعضه مع لغات أخرى قضى عليها وأماتها، بدليل أن اللغة الرسمية لكل دول افريقيا تنحصر ما بين اللغة الانجليزية واللغة الفرنسية وقد اندثرت اللغة الأم لتلك الدول تماما وحلّ محلها لغة المحتل! أما فى العالم العربى ورغم الاحتلال الذى تعرضت له كل الدول العربية إلا انه مازالت العربية هى لغتها الرسمية، وهذا ليس من باب التفاؤل إنما من باب الواقع وقراءة التاريخ، فاللغة العربية باسلة بذاتها وليس بأهلها، فلو تُركت حمايتها لأهلها ما بقيت وما استمرت فحمايتها من ذاتها بأمر ربها، فمن يتحدث باللغة العربية على مستوى العالم يقدّروا بالمليار ونصف مليار، فلا يوجد مسلم يقرأ القرآن بغير العربية، ولا يوجد مسلم يؤذّن للأذان بلغة غير العربية، وكذلك الحال بقراءة الأذكار المختلفة .
اسرائيل وإحياء لغتها
> على خلفية ذكر المحتل الاسرائيلى وتدريسه للعلوم المختلفة باللغة العبرية، ما هو تقييمك لإحياء اسرائيل لغتها بعد اندثارها؟
>> سبق وتناولت هذا الموضوع فى بحث علمى تحدثت فيه عن تجارب الأمم ومؤسسات المجتمع المدنى تجاه لغتها، وذكرت أنه فى أربعينيات القرن الماضى قام شخص يدعى عزرا بعمل صالون فى بيته واتفق مع الحضور أن يتحدثوا باللغة العبرية، وبدأ يعمل قاموسا للغة العبرية حتى وصل القاموس لأربعة عشر مجلدا، وبدأ الصالون فى الاتساع وشمل أعدادا كبيرة حتى نجح فى إعادة إحياء اللغة العبرية فهى من وجهة نظرى تجربة بسيطة جدا لكنها تحتاج إلى إرادة ثم جاءت الدولة الغاصبة وجعلت اللغة الرسمية لكل المنتسبين لها من شتى بقاع العالم هى اللغة العبرية فهم لا يتكلمون إلا بالعبرية ولا نقاش داخل البرلمان إلا بالعبرية ولا تدريس بالمدارس والجامعات إلا بالعبرية، فهذا قرار لكنه احتاج إرادة وتصميما على التطبيق والتنفيذ، لكن بفضل الله ومشيئته لغتنا العربية حية بذاتها وليس بأهلها لأن أهلها للأسف لا يصلحون !
مسؤلية الإعلام
> إلى أى مدى تحمل الإعلام وما يقدمه من أعمال فنية متدنية فى لغتها وأغانى مبتذلة تحتوى على كلمات بذيئة مسؤلية الطعن فى اللغة؟
>> بالطبع الإعلام مسئول وعليه أن يقوم بمسئوليته تجاه اللغة العربية وتقديمها كما يليق بها وباعتبارها لغة القرآن الكريم، ويجب ان يرتقى الاعلام بالذوق العام ولا يتدنى به هكذا، ومن رأيى أن أم كلثوم خدمت اللغة العربية وأحيتها أفضل من علماء كثيرين فى اللغة، فالفلاح الذى يبيع إحدى مواشيه كى يحضر حفلة لأم كلثوم فهذا يعنى أنه يفهم ويستوعب ما تقوله، وهذا أفضل إحياء للغة أن تجعلها تسير على لسان البسطاء، وكما توجد أغانى المهرجانات فلدينا قصائد الفصحى التى ينشدها كاظم الساهر والتى يتغنّى بها شباب كثر .