مازلت القرية المصرية تحتفظ بعاداتها وتقاليدها الأصيلة في الترابط الأسري والتكافل الاجتماعي، وتبرز أكثر في المظاهر الرمضانية، وبالأخص في مائدة الإفطار التى يحرص الكثيرون على إخراجها أمام منازلهم، واجتماع أبناء كل حى ومنطقة على موائد مشتركة.
“عقيدتى” شاركت في إحدى هذه الموائد الرمضانية بقرية الرغامة البلد، كوم امبو، أسوان، وسجَّلت بالكلمة والصورة ما دار فيها، ودلالته، فى السطور القادمة، خاصة وأن أبناءها المغتربين فى القاهرة أو غيرها من المحافظات أو حتى الدول العربية، نقلوا معهم تلك العادات والمأكولات، مثلما يقول ذلك المستشار القانونى على عثمان- رئيس جمعية الرغامة البلد، بمنطقة لعبة، مطار امبابة، الجيزة-: نحرص على إحياء هذه التقاليد فى بيوتنا وأيضا مقر الجمعية حيث الإفطار الجماعى اول جمعة من رمضان.
يشاركه الرأى محمد عبدالفتاح- رئيس الجمعية، فرع القاهرة- مشيرا إلى انهم يقيمون مائدتهم فى الجمعة الثانية من الشهر الكريم، وفيها كل المأكولات والمشروبات الأسوانية، ويجتمع حولها أبناء القرية كبيرا وصغيرا، حتى المولود فى القاهرة، وتضم المائدة: الخمَّرِيد، التمر باللبن، الكركديه، وغيرها من المأكولات المتخصصة.
يقول محمود عبدالحافظ- كبير مراسلين بالقناة الثامنة طيبة-: يحرص أهالى قريتنا على الاجتماع اليومى على مائدة الإفطار، وفى السابق كان السحور أيضاً، كنوع من الترابط الأسري والتكافل الاجتماعي وتبادل الخبرات والتجارب الحياتية بين الأجيال، وخاصة عند استعراض القضايا والمشكلات التي تواجهنا، وتدخُّل الكبار بخبراتهم فى حلّها، بما يعلّم الشباب كيفية التعامل معها وغيرها مستقبلاً.
اجتماع رمضانى
يتدخل الحاج صالح الشوكى- مزارع- قائلا: تربّينا على هذه المشاركة الأُسرية والاجتماعية فيما بين عائلات المنطقة، منذ أكثر من خمسين عاما، فنحن جميعا أخوة لا تفرّقنا المسافات حتى لو تباعدت، فنحرص على الاجتماع الرمضانى، ويعرِض كِبارنا للمشكلات وحلولها من وجهة نظرهم، وبالتالى فنحن نسعى لترسيخها فى الأجيال الجديدة ليظل الترابط موصولاً.
برلمان قروى
يلتقط خيط الحديث الحاج على الضبعة- تاجر تمر وفاكهة- مؤكداً أن هذه المائدة الرمضانية توارثتها القرية جيلا عن جيل، فهى عبارة عن برلمان قروى يضم كل الفئات العُمرية ومن خلاله يتم تناول العلاقات اليومية وما يمكن أن نتعرّض له من مشكلات، لحلها فى مهدها قبل أن تكبر.
ركيزة الاستقرار
ويشير أحمد أبو سعد- بالقوات المسلحة- إلى أن هذه الظاهرة التي تتفرّد بها القرية المصرية تمثّل الركيزة الأساسية في ترابط أبنائها، ومواجهة التحديات بشكل جماعى، بما يحقّق الاستقرار والسلام الاجتماعي فيما بينهم.
ويؤكد أنور عبدالظاهر وحسين الشرونى- بالمعاش- أن هذه الظاهرة تطبيق عملي لقيم القرآن والسُنَّة التى تأمر بالتعاون والتكافل والتراحم وتناقلها بين الأجيال، وليس هناك أفضل من شهر القرآن والبركات للتطبيق العملي.
يؤيده عرفة المحفوضى وأحمد عبدالموجود- بالأوقاف- مشيرين إلى أن هذه التجمعات واللقاءات فيما بين عائلات القرية، سواء على المائدة الرمضانية أو غيرها، يزيد من ترابطهم ويزيل أى خلاف أو مشكلة وهى صغيرة، خاصة وأن الجميع أقرباء وأولاد عمومة.
الاستقرار والسلام
يتفق معه حامد طه- موظف بمجلس قروى أقليت- مؤكدا أن هذه الظاهرة وغيرها من العلاقات الاجتماعية والإنسانية التي تربط أبناء القرية المصرية عامة، تمثّل حائط الصد والحصن المنيع الذى يحفظها ضد أى قلاقل واضطرابات، ويجعلها دائما في استقرار أمنى وسلام نفسى واجتماعى.
ويؤكد سعيد عبدالرحمن- سائق- حرص كل العائلات على إخراج “صوانى” الإفطار أمام البيوت، لأنها تزيد المحبة والترابط، والجميع يتبادل الوجبات فيما بينهم، لأننا فعلا أسرة واحدة، ونشعر بالسعادة والدفء الأُسرى عندما نأكل معا من نفس الطعام وعلى نفس “الصينية”.
ويشير حمدى المحفوضى- موظف بالأوقاف- إلى أن هذه المائدة تعمِّق العلاقات الاجتماعية والإنسانية، فضلاً عن مساعدة المسافرين أو المتأخّرين فى أعمالهم وأشغالهم، لأنها تُقام أمام المنازل وخاصة على الطرق السريعة.
“النُفَّاد” المنزلى!
ويُسلِّط عثمان عبدالحافظ، الضوء على جانب آخر بقوله: هذه الموائد الرمضانية لا تقتصر على الرجال فقط بل تقيمها النساء أيضاً ولكن داخل المنازل، حيث يلتقين كل يوم في أحدها بالتناوب، أو على الأقل يتبادَلن أطباق الطعام والمشروبات عبر “النُفَّاد”، شباك صغير بين البيوت.
ويوضح مصطفى طه حامد- شيف- أن هذه المائدة تضم مختلف الأعمار، فكل مجموعة متقاربة سنًّا تجتمع على “صينية” واحدة، مع التزام قيم احترام الكبير والرأفة والرحمة بالصغير، والأهم تذكّر سير الراحلين والدعاء لهم.
ويرى على الشوكى، أنها فرصة لتجديد العلاقات وتوطيدها، خاصة مع انشغال الكثيرين بأعمالهم وتباعدهم نتيجة التوسّع العمراني.
شباب المستقبل
ومن جيل الشباب الصغير، يقول عبدالرحمن خالد- طالب بالثانوية العامة-: رغم أن والدى يعمل بالقاهرة إلا أنه شدَّد علىَّ بضرورة المواظبة على المشاركة في هذا التجمّع الرمضانى باعتباره عادة وتقليدا توارثته الأجيال، ونتعلّم منه نحن الصغار القيم والأخلاق من كِبَارَاتنا.
يتفق معه زميله مازن محمود، بالمرحلة الإعدادية، مشيراً إلى أنه رغم إقامة أسرته في مدينة أسوان، إلا أنهم يحرصون على قضاء أغلب أيام رمضان فى القرية للمشاركة فى هذه المائدة العائلية التي تربط أبناء القرية، حتى المغتربين منهم، بأصول وجذور وقيم أجدادنا.