بقلم د َ. حنان شبانة
الأستاذ المساعد بجامعة تبوك سابقا
قال الله تعالى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ (التوبة: 105). بهذه الكلمات القرآنية العظيمة، تتجلى قيمة العمل في الإسلام، حيث يشكل الإتقان جوهره ومعيار جودته. ويتعزز هذا المعنى السامي في قول النبي ():”إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه” (رواه أبو يعلى في مسنده).
فالإتقان لا يقتصر على كونه وسيلة لتحقيق الأهداف، بل هو أساس لبناء مجتمعات قوية ومستدامة، تعكس روح الرسالة الإسلامية السامية التي تدعو إلى التميز في جميع جوانب الحياة.
في عالم يواجه تحولات متسارعة وتحديات متزايدة، يبرز التعليم الشرعي كحارس للهوية الإسلامية وأداة للحفاظ على القيم الأصيلة. ومع ذلك، فإن المسؤولية الملقاة على عاتق هذا النوع من التعليم تتجاوز حدود الحفاظ على التراث، لتشمل أيضاً مواكبة تطورات العصر ومتطلباته. السؤال المحوري هنا هو: كيف يمكن للتعليم الشرعي أن يوازن بين عمق جذوره وأصالة قيمه من جهة، ومتطلبات الحاضر والمستقبل من جهة أخرى؟
للإجابة عن هذا السؤال، يتضح أن الاعتماد الأكاديمي يمثل خطوة محورية نحو تطوير التعليم الشرعي. فهو ليس مجرد وسيلة لتحسين المناهج أو تحديث طرق التدريس، بل هو عملية شاملة تهدف إلى إعداد أجيال قادرة على فهم العلوم الشرعية بعمق وتطبيقها بمرونة وحكمة في سياقات معاصرة. وكما قيل:” النجاح هو نتيجة التحضير الجيد، والعمل الجاد، والتعلم من الفشل”.
إن مفهوم الاعتماد الأكاديمي يمتد ليشمل رؤية استراتيجية تدمج بين التراث الإسلامي ومتطلبات المستقبل. فالتطوير الأكاديمي لا يقتصر على الجوانب التقنية أو الإدارية، بل يشمل أبعاداً جوهرية تتعلق بتحسين المناهج الدراسية بانتظام، وضمان توافقها مع معايير الجودة العالمية، مما يُسهم في تأسيس بيئة تعليمية نابضة بالحياة تلهم الإبداع وتحفز الابتكار. كما يتطلب ذلك الاستثمار في تطوير الكوادر التعليمية، عبر برامج تدريبية مستمرة تمكن المعلمين من مواكبة المستجدات الأكاديمية، ليصبحوا أكثر قدرة على تقديم تجربة تعليمية شاملة وفعالة.
وعلاوة على ذلك، يلعب الاعتماد الأكاديمي دوراً جوهرياً في تحقيق التوازن بين الأصالة والتحديث، إذ يربط التراث الإسلامي بالقضايا المعاصرة، ويقدم مناهج تدمج بين العلوم الشرعية والمهارات الحديثة. ومن خلال هذا النهج الشامل، يمكن للمؤسسات الشرعية أن تبني جسوراً قوية مع سوق العمل، مما يمنح الطلاب فرصاً واسعة تمكنهم من المشاركة الفعالة في المجتمع مع الحفاظ على هويتهم الإسلامية.
إن التزام المؤسسات بمعايير الاعتماد الأكاديمي لا يعزز فقط جودة التعليم، بل يسهم أيضاً في بناء شراكات استراتيجية مع جهات محلية ودولية، مما يفتح آفاقاً جديدة أمام الطلاب والمؤسسات. وبذلك، تصبح هذه المؤسسات قادرة على تقديم تعليم يلبي تطلعات المجتمع، ويحقق طموحات أجياله.
من خلال هذه الجهود، تتضح الرؤية المستقبلية للتعليم الشرعي بوصفه نموذجاً رائداً يجمع بين القيم الإسلامية ومقتضيات الحداثة. وبفضل هذا التوجه، يمكن للمؤسسات أن تعد أجيالاً تجمع بين المعرفة والإبداع، بين الحكمة والأصالة، مستنيرة بقوله تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ ( المجادلة: 11).
فالتعليم الشرعي ليس مجرد نقل للمعرفة، بل هو مشروع نهضوي يبنى على قيم راسخة تسهم في صياغة العقول وبناء القادة وصناع المستقبل. وكما قال النبي (صلى الله عليه وسلم):” خيركم من تعلم القرآن وعلمه” ( رواه البخاري)، فإن رسالة التعليم الشرعي تتجلى في الإعداد المتكامل للإنسان الذي يسهم بفعالية في صنع عالم أفضل.
وفي ختام هذا الطرح، يبقى السؤال الأهم مطروحاً: هل نحن مستعدون لأن نكون نموذجاً يحتذى به في الجمع بين العلم والعمل، بين الالتزام والإبداع؟ وكما قيل:”كن أنت التغيير الذي تريد أن تراه في العالم”. تخيل مؤسسات شرعية تلهم العالم بقيمها الراسخة، وطلاباً يمزجون بين الحكمة الإسلامية، والابتكار الحديث ليشكلوا حجر الأساس لعالم أكثر إشراقاً. هل نحن جاهزون لتحقيق هذه الرؤية الطموحة؟