من الأمور الثابتة والمتواترة عند معظم أهل السنة والجماعة أن معجزة الإسراء والمعراج وقعتا في ليلة واحدة، بل في جزء من الليل، ولم تستغرق الليل كله، مما يدل على مدى الإعجاز الإلهي، وأنه أُسري برسول الله بالروح والجسد معاً، يقظة لا مناماً، من المسجد الحرام بمكة، إلي المسجد الأقصي بفلسطين، علي البراق، بصحبة الأمين جبريل عليه السلام، وأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلَّى بالأنبياء والرسل إماماً في تلك الليلة، وعُرج به إلى السموات العُلا، وأراه الله تعالي في هذه الليلة ما شاء سبحانه من الآيات والمشاهد؛ ليكون دليلاً على نبوّته، وحُجّة علي صدق دعوته ورسالته .
ولاشك أن للتوقيت الزماني، وللترابط المكاني فى الإسراء والمعراج دلالاته ومقاصده وأسراره، أما عن التوقيت الزماني: فإن العلماء اتفقوا علي أن الواقعة كانت بعد ذهاب النبي إلى الطائف، وردِّهم له الردّ المنكر، وقد درج المسلمون على الاحتفال بهذه الذكرى في السابع والعشرين من رجب، والتحقيق العلمي يؤكد أن الْإِسْرَاءَ كَانَ مَرَّةً وَاحِدَةً بِمَكَّةَ، بَعْدَ الْبِعْثَةِ، قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ، وَقِيلَ: بِسَنَةٍ وَشَهْرَيْنِ، أي ما بين السنة الحادية عشرة إلى السنة الثانية عشرة من البعثة على الأرجح، وهو ما يوافق 621م، فالحادثة تقع في منتصف فترة تاريخ الدعوة الإسلامية .
فالإسراء والمعراج يقعان قريبًا من منتصف فترة الرسالة التي مكثت ثلاثة وعشرين عامًا، وبذلك كانا علاجًا مسح متاعب الماضي، ووضع بذور النجاح للمستقبل، وذلك لأن رؤية طرف من آيات الله الكبرى فى ملكوت السموات والأرض له أثره الحاسم فى توهين كيد الكافرين، وتصغير جموعهم، ومعرفة عقباهم، وفيه تثبيت قلب النبي على ما هو عليه من الحق.
وقد عرف سيدنا رسول لله فى هذه الرحلة أن رسالته ستنساح فى الأرض، وتتوطن الأودية الخصبة فى النيل والفرات، وتنتزع هذه البقاع من مجوسية الفرس وتثليث الروم، بل إن أهل هذه الأودية سيكونون حملة الإسلام جيلاً فى أعقاب جيل.
ويضاف إلى ذلك أن الإسراء والمعرج حدثا بعد العام الذى تُوفى فيه من يمثّلون خط الدفاع الأول عن رسول الله، أعنى عمّه أبوطالب، وزوجه خديجةـ رضى الله عنهماـ وبعد أن ضُيِّق عليه من أهل الأرض، فكان الإسراء والمعراج بمثابة التكريم الإلهي للرسول الخاتم، والإعلان بانتصار دعوته، وعموم رسالته؛ حيث جمعت الرحلة المباركة بين المسجد الحرام الذى بناه خليل الرحمن إبراهيم ـ عليه السلام ـ والمسجد الأقصى مهد الرسالات الإلهية، ومحل دعوة المسيح ـ عليه السلام ـ ثم رحلة العروج التي جمع الله تعالى له فيها جميع الأنبياء، والتقى بهم ـ عليهم الصلاة والسلام ـ ليكون إماماً لهم.
أما عن الترابط المكاني بين الإسراء والمعراج فهو حقيقة واقعية، صرحت بها المصادر الصحيحة، وأكدت على أن الإسراء بدأ من المسجد الحرام بمكة، إلى المسجد الأقصى بالقدس الشريف بفلسطين، وأن المعراج بدأ من المسجد الأقصى إلى السموات العلا، حتى بلغ سدرة المنتهى، فقد نص القرآن وأكدت السنة النبوية المطهرة على هذا الترابط المكانى، فقال تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الْإِسْرَاءِ: 1.
وسجَّل القرآن حادثة المعراج وثمرته فى أوائل سورة النجم: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشى. مَا زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى. لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى). وأكدت السنة الصحيحة هذا الترابط فى الحديث الذى رواه البخارى فى صحيحه وفيه: “ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي، فَعَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، … إلخ “.
أما عن الدلالات التربوية في الترابط المكاني بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى: فذلك تربية للأمة على الإيمان بالغيبيات، والمعجزات الحسية والمعنوية، وخوارق العادات، ودلَّ ذلك على أن الإسراء والمعراج كان بالروح والجسد معًا.
ومن أهم الحكم الإلهية أنه تقرر تحويل النبوة عن بنى إسرائيل إلى الأبد، ومن ثمَّ كان مجئ الرسالة إلى محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ انتقالا بالقيادة الروحية فى العالم، من أمّة إلى أمّة، ومن بلد إلى بلد، ومن ذرية إسرائيل، إلى ذرية اسماعيل، وقد حملت الأمة الجديدة رسالتها، وورث النبي العربي تعاليم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، وقام يكافح لنشرها وجمع الناس عليها، فكان من وصل الحاضر بالماضي، وإدماج الكل فى حقيقة واحدة، أن يعتبر المسجد الأقصى ثالث الحرمين فى الإسلام. وهذا يدل على عظيم مكانة القدس ومسجدها الأقصى فى الإسلام.
ومن الدلالات الواضحة أن هناك وحدة عقدية، وترابطاً تاريخيًا بين الأماكن الثلاثة المباركة، التي أشرق منها نور التوحيد، ونزل بها الوحى الشريف، وهى: مكة التي أُسري به صلى الله عليه وسلم منها، وطور سيناء التي مر بها في رحلة الإسراء والمعراج، والقدس الشريف التي صلى إمامًا بالأنبياء فيها، وقد أشارت سورة التين لهذا الترابط الديني بين هذه الأماكن (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ. وَطُورِ سِينِينَ. وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) سورة التين 1ـ3
لقد أراد الله تبارك وتعالى أن يربط بين المسجدين، (من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى)، لما يعلمه بعد ذلك أن يرتبط في وجدان المسلم هذين المسجدين؛ ليبقى ثابتا فى عقول الأمة وضمائرها أن تحافظ عليهما مهما اختلفت بهم الأمكنة وطالت بهم الأزمنة إلى قيام الساعة.