تروي كتب السيرة مشهدا عظيما من مشاهد رحلة الحبيب- صلى الله عليه وسلم- إلى الطائف بحثا عن أرض جديدة تنبت فيها الدعوة بأطيب الثمار، ولكن شاء الله أن يجد رسول الله من أهل الطائف فجورا في المعاملة وقلة في المروءة وخسة في الطباع ،ومع هذا السواد الحالك الذي ملأ كل أركان الصورة تجلى بصيص من نور متمثلا في لقاء رسول الله مع عدَّاس الغلام المبارك، وكان المكان الذي تم فيه اللقاء بستانا لعُتْبة بن ربيعة وشَيْبة بن ربيعة، فلما دخله النبي، عمَد إلى ظل حبلة من عنب، فجلس فيه، وكانا ابنا ربيعةَ ينظران إليه ويريان ما لقي من سفهاء أهل الطائف، فتحرَّكت له رحمُهما، فدعوا غلامًا لهما نصرانيًّا، يقال له: عدَّاس، فقالا له: خُذْ قطفًا من هذا العنب، فضَعْه في هذا الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، فقُلْ له يأكل منه.
ففعل عداس، ثم أقبَلَ به حتى وضعه بين يدَي رسول الله، ثم قال له: كُلْ، فلما وضع رسول الله فيه يده، قال: ((بسم الله))، ثم أكل، فقال عدّاس: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال له رسول الله: ومن أهل أي البلاد أنت يا عداس، وما دينك؟ قال: نصراني، وأنا رجل من أهل نينوى، فقال رسول الله: من قرية الرجل الصالح يونس بن متى، فقال له عداس: وما يدريك ما يونس بن متى؟ فقال: ذاك أخي، كان نبيا وأنا نبي، فأكب عدّاس على رسول الله يقبِّل رأسه ويديه وقدميه. قال: يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه: أما غلامك فقد أفسده عليك.
فلما جاءهما عداس، قالا له: ويلك يا عداس مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ قال: يا سيدي ما في الأرض شئ خير من هذا، لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي، قالا له: ويحك يا عداس، لا، يصرفنك عن دينك، فإن دينك خير من دينه.
ومن هذا المشهد نأخذ بعض العبر، أولها: عداس كان من بلد سيدنا يونس عليه السلام الذي فارق قومه لما يأس من هدايتهم، فهداهم الله بعد فراقه لهم ،قال تعالى: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَة آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانهَا إِلَّا قَوْم يُونُس لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَاب الْخِزْي فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِين} وهكذا هداية الله لا تتوقف على أحد فالهدى هدى الله، وكأن الله تبارك وتعالى يرسل إشارة إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مفادها: إن الذي هدى قوم يونس بدون يونس قادر على هداية أهل مكة فلا تبتئس ولا تتعجل.
الثاني: عداس نصراني والنصارى أقرب أهل الكتاب إلى المسلمين، (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ).
الثالث: كم من إنسان مجهول عند الناس إلا أنه عظيم القدر والقيمة عند الله، وكم من إنسان سعى إلي الهداية وطلب أسبابها، وكم من سعداء طلبتهم الهداية وفرحت بهم، وعداس واحد منهم، رضي الله عن عداس.