إذا كان المصريون بصفة خاصة وجموع المسلمين بصفة عامة يحتفلون في هذه الأيام في مصر بذكري العقيلة السيدة زينب رضي الله عنها_صاحبة المسجد الكبير و المقام الشريف بقاهرة المعز لدين الله الفاطمي_في حي عريق اشتهر باسمها هذا الحي الذي توالت عليه السنين فيما بعد فتغير اسمه من قنطرة السباع نسبة إلى الملك الظاهر بيبرس إلى’حي السيدة زينب’
_أنشأ الحُكام المسلمون عدة قناطر ليتمكن الناس من عبور ضفتى خليج نهر النيل ومن أهم تلك القناطر فى العصر المملوكي”قنطرة السّباع” أو قناطر السباع والتى ارتبط ذكرها عند المؤرخين فى العصور الوسطى بغيرة السلطان المملوكى الناصر محمد بن قلاوون من منشئها السلطان الظاهر بيبرس البندقداري_
هذا الحي الذي يهرع نحوه في كل زمان ومكان العلماء والصالحين وتكاد ترى من أعوزتهم الحاجة يفدون إلى هذه البقعة الطاهرة حتى أطلق على من نزلت به الفاقةو الحاجة المثل العامي الدارج”قاعد على باب السيدة”!
وكأن باب عقيلة بنو هاشم السيدة زينب رضي الله عنها باب من أبواب العطاء الإلهي في دنيا الناس فهو باب لا ينضب معينه ولا تتلاشى أنواره أبد الدهر .
كيف لا وهي امتداد للكوكبة الطاهرة الفريدة التي شرفت بالانتساب إلى جناب النبي الأعظم عليه الصلاة والسلام نسبا وحسبا علما وسلوكاً فكانوا بهذا التميز محطا لرحال الناس خاصتهم وعامتهم في حياتهم وبعد انتقالهم إلى الرفيق الأعلى .
فهم بذلك”سفن النجا لمن بهم إلى الله التجا”بنص حديث جدهم عليه أفضل الصلاة والسلام:”مثل آل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها فقد نجا ومن تخلف عنها فقد هلك” .
لقد سارت أرواح المؤمنين مسرعة وملبية هذا النداء الفياض لهؤلاء الاطهار منذ أن نطق الوحي بهذا التوجيه الفريد:{ ۗ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ….} .
وإن القارئ في التاريخ والمستوضح أحداثه وطيات كتبه ليقف ولو للحظات متفكرا ومعتبرا ومتسائلا:
لماذا كانت مصر هي محط السادة الكرام من آل البيت رضي الله عنهم بهذه الكثرة الكبيرة والتي لم تجمع في قطر من الأقطار مثلما جمعت في مصر؟
وكأن هذا الجمع الأكبر سنة إلهية وعناية ربانية لا سيما وقد كانت مصر خزانة يوسف وتجلي موسى عليهما السلام وبها كان مسار العائلة المقدسة وفوق كل هذا وذاك فأهل مصر هم اصهار النبي سيدنا محمد حيث تزوج من مارية القبطية .
عقب استشهاد الإمام الحسين في واقعة كربلاء وفدت السيدة زينب رضي الله عنها إلى مصر ومعها ما تبقى من آل البيت وعلى أبواب بلبيس كان الاستقبال الحافل لها من أهل مصر الذين يعرفون لآل البيت مقامهم ومكانتهم حتى انه لتنقل لنا بطون الكتب أن والي البلاد يومها وهو “مخلدة بن مسلم الأنصاري”خرج يستقبل ريحانة النبي وبضعته حافي القدمين ..
على أبواب مصر وفي تلك اللحظات الفارقة في حياة المصريين كان الدعاء الخالد من السيدة زينب رضي الله عنها لأهل مصر:”آويتمونا يا أهل مصر آواكم الله ونصرتمونا نصركم الله جعل الله لكم من هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا” .
توجه الناس مشياً إلى الفسطاط وبينهم حفيدة النبي في مشهد مهيب اختلطت فيه مشاعر القوم ما بين الحزن والسعادة،حزنا وألما لما نزل بأهل البيت من مصائب ومحن،وفرح لقدومهم إلى مصر واختيار أهلها قوما وعشيرة وجيرانا .
وما هي غير ساعات قليلة من الوقت حتى تنازل الوالى عن منزله لتقيم فيه السيدة زينب رضى الله عنها إكراماً لها وكان معها فاطمة النبوية وسكينة وعلى زين العابدين أبناء الشهيد الإمام الحسين ونزلت المشيرة فى قصر يشرف على نهر النيل .
اختارت الطاهرة زينب أرض مصر مستقرا و سكنا فأضحت قلوب أهلها_أبد الدهر_ لها وآلها وطنا ومقاما
كانت عقيلة بني هاشم تشبه أباها علياً وأمها الزهراء كثيرة العبادة والتهجد ، كانت تؤدي النوافل كاملة في كل أوقاتها ، ولم تغفل عن نافلة الليل قط ، ولا زالت تتلو القرآن الكريم حتى لحقت بربها عز وجل راضية مرضية .
فحينما أزور ضريح عقيلة بني هاشم السيدة زينب رضي الله عنها في ذكرى قدومها إلى مصر أو في غير ذلك فإنما أزور سيدة تربعت على عرش النساء شموخا وعزة،مهابة وإكبار .
أزور مقام هذه العظيمة وأكاد اسمع بأذناي صدى صرخاتها التي أكملت بها ثورة شقيقها الإمام الحسين شهيد كربلاء،هذا المقاتل الجسور الذي رفض الضيم والذل والعار وقال كلمته مدوية في سماء العالمين:_
“مثلي لا يبايع يزيد بن معاوية كما أن مثلي لا يخاف من الموت”!
فكيف بها وهي تواجه الطاغية في دار خلافته صارخة في وجهه:”فكد كيدك ، واسع سعيك ،وناصب جهدك ، فو الله لا تمحو ذكرنا ، ولا تميت وحينا ، ولا يرحض عنك عارها ، وهل رأيك الا فند وأيامك الا عدد ، وجمعك إلا بدد ، يوم ينادى المنادي ألا لعنة الله على الظالمين . ”
فكانت كلماتها الشجاعة وابل من النيران أطلقتها فقوضت بها عروش الظالمين إلى الأبد .
على عتبات مقامها الأنور تشم الطيب الذي لا تشم سواه في مكان آخر سوى مقامات الدوحة الهاشمية وكأن السلالة العطرة من آل محمد نسخة واحدة في اتساق نورانيتهم المستمدة من مشكاة النبوة والعاكسة لأنوراها المشرقة في آفاق هذا الكون الكبير ….
هذا إلى جانب طيبهم الفواح و جمالهم الخلاب وجلالهم مهاب الجناب .
حين أفد إلى ساحة”العقيلة”وأقف أمام ضريحها الشامخ ومآذن مسجدها المتلاحمة مع سحب السماء الثائرة فإنما أزور جبلا للصبر واستجمع التاريخ واستعيد ذكرياته وأحداثه فتعود ذاكرتي إلى الماضي وحكاياته بأفراحه وأتراحه ولا تراني إلا هاتفا في آفاق الروح ومن ثم اهتديت .
إن فلسفتي في حب هؤلاء القوم هي فلسفة خاصة لها ديناميكية من الحب الذي يعرج بالروح إلى عالم آخر من النور،عالم جبلت عليه فطرتي لا باختياري وحيلتي .