تعليم اللغات في سن مبكرة.. كارثة على الهوية والانتماء
رسولنا والخلفاء الراشدون والتابعون كانوا يغارون على العربية
لغتنا قد تحتضر ولكن لن تموت.. وتحذير اليونسكو من اندثارها أكذوبة
الأعاجم يغارون على لغاتهم الأم.. والتغريبيون عندنا يحاربونها!
الغلو الديني موجود في كل الأديان.. ولصقه بالإسلام وحده مؤامرة
تجديد الخطاب الديني ضرورة.. وهذه ضوابطه ومواصفات المجددين
حوار – جمال سالم:
الحوار مع الأستاذ الدكتور إبراهيم الهدهد، عضو مجمع البحوث الإسلامية، الرئيس الأسبق لجامعة الأزهر، مستشار المنظمة العالمي لخريحي الأزهر، وعضو رئاسة تحرير مجلة الأزهر، له مذاق خاص، فهو ليس عالم دين أو لغوي تقليدي بل إنه- بلا مبالغة- مفكر موسوعي، حاضر الذهن والبديهة، مقنع في ردوده وإجاباته على ما يوجه إليه من أسئلة في مختلف المجالات.
من هنا تأتي أهمية الحوار معه في العديد من القضايا المطروحة على الساحة الفكرية الإسلامية.
• حذرتم من التعليم غير المنضبط للغات الأجنبية للأطفال في مصر والوطن العربي، فما الأسس التي استندتم إليها؟
** هناك مخاطر لتعليم اللغة الأجنبية بل على الهوية، وعدوانها على الانتماء للوطن والدين، وبناء أجيال أجسادها على الوطن، وهواها خارجه، إعجابها دائما بالثقافة الوافدة، ترددها تيها وفخارا، وتنظر بعين الاحتقار والبغض للغتها الأم، وهذا نتاج الاستعمار الحضاري البغيض الذي اتجه إلى احتلال العقول من بعد احتلال الأوطان، فما أجمل مقالة الرافعي في تاريخ آداب العرب: “ما ذلّت لغة شعب إلا ذلّ، ولا انحطّت إلا كان أمره فى ذهاب وإدبار”، ويتفق الباحثون على أن مراحل الطفولة تمر بثلاثة مستويات لنمو الطفل، الأول” 2- 4 سنوات”، الثانى” 4- 7 سنوات”، الثالث” 7- 12 سنة”. وهذه المستويات من أخطر المراحل وأهمها في اكتساب أسس المعرفة، وبناء الهوية الوطنية، فكل ما يكون في هذه المراحل يضرب بجذور ثابتة في بناء الشخصية والهوية، وتصعب إزاحته، أو خلخلته، وأثبتت إحدى الدراسات أن السن الطبيعي لإدراك الطفل لهويته القومية تبدأ ببلوغه (7:6) سنوات ويزداد إدراكه بتقدم عمره.
الهوية الثقافية
• ماذا تقصد الهوية الثقافية وكيف نحافظ عليها؟
** الهوية كلمة محدثة والهوية في الفلسفة حقيقة الشئ أو الشخص التي تميزه عن غيره، أو هي بطاقة يثبت فيها اسم الشخص وجنسيته ومولده وعمله، وتسمي البطاقة الشخصية أيضا، وقد عرَّف د. سعيد إسماعيل علي “الهوية بأنها جملة المعالم المميزة للشئ التي تجعله هو هو، بحيث لا تخطئ في تمييزه عن غيره من الأشياء، ولكل منا- كإنسان- شخصيته المميزة له، فله نسقه القيمي ومعتقداته وعاداته السلوكية وميوله واتجاهاته وثقافته، وهكذا الشأن بالنسبة للأمم والشعوب”، وأشار د. محمد عمارة إلي أن “هوية الشئ ثوابته التي لا تتجدد ولا تتغير، وتتجلي وتفصح عن ذاتها دون أن تخلي مكانتها لنقيضها طالما بقيت الذات على قيد الحياة، فهي كالبصمة بالنسبة للإنسان يتميز بها عن غيره وتتجدد فاعليتها، ويتجلى وجهها كلما أزيلت من فوقها طوارئ الطمس، إنها الشفرة التي يمكن للفرد عن طريقها أن يعرف نفسه في علاقته بالجماعة الاجتماعية التي ينتمي إليها، والتي عن طريقها يتعرف عليه الآخرون باعتباره منتميا لتلك الجماعة”.
تعريف اليونسكو
• ما هو تعريف اليونسكو للهوية الثقافية باعتبارها المنظمة الأممية الثقافية الأولى؟
**عرفت منظمة اليونسكو الهوية الثقافية بأنها تعني أولا وقبل كل شئ أننا أفراد ننتمي إلي جماعة لغوية محلية أو إقليمية أو وطنية، بما لها من قيم أخلاقية وجمالية تميزها، ويتضمن ذلك أيضا الأسلوب الذي نستوعب به تاريخ الجماعة وتقاليدها وعاداتها وأسلوب حياتها، وإحساسنا بالخضوع له والمشاركة فيه، أو تشكيل قدر مشترك منه، وتعني الطريقة التي تظهر فيها أنفسنا في ذات كلية، وتعد بالنسبة لكل فرد منا نوعا من المعادلة الأساسية التي تقرر- بطريقة إيجابية أو سلبية- الطريقة التي ننتسب بها إلي جماعتنا والعالم بصفة عامة، وأشارت المنظمة إلى أهمية الحفاظ على اللغات الخاصة بالمجتمعات ودعت الحكومات وهيئات الأمم المتحدة ومنظمات المجتمع المدني والمؤسسات التعليمية والجمعيات المهنية وجميع الجهات المعنية الأخرى لمضاعفة أنشطتها الرامية إلى ضمان احترام وتعزيز وحماية جميع اللغات، ولاسيما اللغات المهددة، وذلك في جميع مجالات الحياة الفردية والجماعية، وتحذير اليونسكو من اندثار العربية مستقبلا أكذوبة لأنها لغة القرآن الذي تكفّل الله بحفظه، قد تضعف، ولكن لن تموت أبدا.
مكونات الهوية
*ما هي مكونات الهوية الثقافية في المجتمع العربي؟
** تتكون الهوية الثقافية العربية من عناصر تتآزر كلها وترتبط ارتباطا عضويا، وأي خلل في أحدها يؤدي إلي خلل في جميعها، وهذه المكونات ثلاث هي (اللغةـ الدين ـ التاريخ)، أما اللغـة فهي العنصر الأول في بناء الهوية، فهي وسيلة الاتصال بين أفراد الأمة، والمعبّر عن مشاعرها، ووجدانها، ووعاء علومها ومعارفها، وسجل عاداتها وتقاليدها، مسكوبُ أنفسهم في كأسها، بها يتخاطبون، وبأصواتها يتعارفون، فهي وسيلة الألفة، وسبيل الاتحاد والقوة، وبها كرم الله الإنسان عن سائر الحيوان، لذا تعنى كل أمة بلغتها، وتعدها عنوان وجودها، ومعلمها بين الأمم، فبها تتميز الأمم عن بعضها، وعبر جسرها المديد تتناقل الأجيال جيلا بعد جيل العلوم والمعارف وسمات الأمم، فاللغة هي السجل لكل ذلك، وهي التي تجعل القوالب الفكرية والثقافية ذات مذاق مميز لكل أمة، ومن هنا تتداعي كل أمة للذود عن لغتها، والعمل على استمرار حياتها، فحياة اللغة حياة للأمة، ولم تعن أمة بلغتها كما عنيت العرب، فلغتهم أطول اللغات عمرا، وأمدّها زمنا، فامرؤ القيس الذي وجد قبل الإسلام بقرن ونصف يفهم لغته أهل زماننا برجوع ميسور إلى معجمات اللغة، على العكس من اللغة الإنجليزية، فلغة شكسبير تحتاج ترجمة ولا يفهمها إلا من تخصص في أدب زمانه، ولا يغرنك سعة انتشارها، وبسطة سلطانها على الشبكة العنكبوتية، فالتاريخ حاكم عادل، فقد بادت بإزاء عربيتنا لغات، ولغتنا باقية وستظل، صامدة وستنهض، فهي عنوان أمتنا.
الدين والتاريخ
• ماذا عن الدين كمكون للهوية الثقافية؟
** الدين هو المكون المركزي لهويتنا الثقافية، ولا يمكن تصور وجود للهوية إلا بوجود الإسلام فهو مميز العرب والمسلمين من غيرهم، وهو أداتهم في مقاومة الاستلاب الثقافي، وأي هجوم على الإسلام يعد هجوما على الهوية الثقافية والحضارية للأمة العربية.
*وماذا عن التاريخ كمكون للهوية الثقافية؟
** كيف يتصور وجود هوية للأمة دون النظر إلى تاريخها؟ لا يمكن لأية أمة أن تشعر بوجودها بين الأمم إلا عن طريق تاريخها؛ الذي يمثل أحد قسمات هويتها، فالتاريخ هو السجل الثابت لماضي الأمة وديوان مفاخرها وذكرياتها، وهو آمالها وأمانيها، بل هو الذي يميز الجماعات البشرية بعضها عن بعض، فكل الذين يشتركون في ماض واحد يعتزون ويفخرون بمآثره يكونون أبناء أمة واحدة، فالتاريخ المشترك عنصر مهم من عناصر المحافظة علي الهوية الثقافية، وعلى ذلك يكون طمس تاريخ الأمة أو تشويهه أو الالتفاف عليه هو أحد الوسائل الناجحة لإخفاء هويتها أو تهميشها، وليس غريبا على الأزهر أن يولي التاريخ عناية بالغة، فهو يجعله لصيقا باللغة لذا كان أول قرار في تحويل الجامع إلى جامعة عام 1929 بالمرسوم الملكي أن تنشأ كليات ثلاثة (أصول الدين ـ الشريعة ـ اللغة العربية) ويكون ضمن أقسام اللغة العربية علميا وتعليميا قسم التاريخ والحضارة، فالكليات الثلاثة قامت- وهي وارثة الجامع- على تدعيم مكونات الهوية الثقافية للأمة.
اللغة والانتماء
• يكثر الجدل ما بين مؤيد ومعارض لعلاقة اللغة بالهوية والانتماء، فماذا تقولون؟
** اللغة العربية هى العمود الفقري للثقافة الإسلامية، فهي الوسيلة لفهم الكتاب والسنة، وهي وعاء علوم أصول الدين والشريعة الإسلامية، وهي أكثر لغات العالم ارتباطا بالهوية، بل هي اللغة الوحيدة التي صمدت سبعة عشر قرنا سجلا أمينا لحضارة أمتنا في ازدهار شاهد على إبداع أبنائها، ويؤكد علم اللغة الاجتماعى أن اللغة تمثل أقوى رابطة بين أعضاء المجتمع الواحد لأنها رمز حياتهم المشتركة، وبهذا يقرر علم اللغة الاجتماعى أن إحدى وظائف اللغة الرئيسية هو تحقيق الترابط بين أجيال المجتمع الواحد عن طريق تبادل الثقافات والتعليم الأجنبى قد يزرع فى الطالب الانتماء إلى اللغة، والثقافة الأجنبية، بكل ما تحمله من معان وأفكار ومفاهيم، لا ترتبط بالتراث الوطنى والتربية القومية.
غيرة أسلافنا
• فلتعرفنا على نماذج من غيرة أسلافنا على اللغة العربية؟
** لا ترى أمة تغار على لغتها كما غار أسلافنا على لغتهم، فقد عدوا اللحن ضلالا، وجعلوا تعلم اللغة من الدين، وتحملوا خطأ الرمي، ولم يطيقوا الخطأ في اللغة، وقد شيب اللحن كبيرهم، وعدوا اللحن في اللغة طعنا في العرض والشرف، بل أكدوا على العلاقة بين الضعف اللغوي وانتشار البدع، بل إنهم أكدوا على العلاقة بين ضيق الرزق، واللحن اللغوي، وهو من الأعاجيب، لذا سأسرد أقوالهم غير معلق عليها، فقد ورد عن الحبيب صلى الله عليه وسلم أنه سمع رجلا يلحن فقال: “أَرْشِدُوا أخاكم فقدْ ضلّ”، وقال أيضا: “أُحِبّ العربَ لثلاثٍ لأَنّى عَرَبِىّ، ولأنّ القرآنَ عربىّ، ولأنّ لسانَ أهلِ الجنةِ فى الجنةِ عربيّ”. ومن أقوال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: “حفِّظوا أولادَكم القرآنَ وعلّموهم الشعرَ تَعْذُبْ ألسنَتُهم، تعلّموا العربيّةَ فإنها من دينِكم تعلّموا الفرائضَ فإنّها من دينِكم” كما روى عنه أنه مر على قوم يرمُون نَبْلا فعابَ عليهِم فقال أحدُهم: يا أميرَ المؤمنين إنّا قومٌ متعلمين، والصحيحُ متعلمون، فقال: لحْنُكُم أشدُّ علىَّ من سُوءِ رميِكُم، سمعت رسول الله يقول: “رحمَ الله امرءا أصلَحَ من لِسَانِه”، وقال الفاروق:” تعلّمُوا العربيّةَ فإنّها تَزِيدُ فى المروءَةِ”، وعن أبىّ بنِ كعب قال: تَعَلَّمُوا العربيةَ فى القرآنِ كمَا تَعَلَّمُونَ حِفْظَهُ”.
الغيرة المستمرة
• قد يقول قائل هذه الغيرة قاصرة على عصر النبوة والخلفاء الراشدين فقط؟
** هذه الغيرة ممتدة عبر التاريخ وخاصة في عصور قوة العرب والمسلمين، فقد كان التابعي “الحسن بن أبى الحسن”، إذا عَثَرَ لسانُه بشئٍ منَ الّلحْنِ قال: أستغفرُ الله. فَسُئِلَ فى ذلكَ، فقال: من أخطأَ فيها – أى: فى العربيةِ – فقد كذَبَ على العربِ، ومن كذَبَ فقد عَمِل سُوءًا والله يقول: “ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً”، وألزم الإمام ابن حزم من أراد أن يتعلم الفقه تعلُّمَ النحوِ واللغةِ، فقال: “لزم لمن طلب الفقه أن يتعلم النحو واللغة، وإلا فهو ناقص منحط لا تجوز له الفتيا في دين الله”، وكان الإمام الشافعى يتكلَّم عنِ البدعِ فَسُئِلَ عنْ كثرَتِها فى زمانِه فقال:” لبُعْدِ الناسِ عنِ العربيةِ”، وقال ابن تيمية” إنّ نفْسَ اللغةِ العربيةِ منَ الدينِ، ومعرفَتُهَا فَرْضٌ واجبٌ، فإنَّ فهمَ الكتابِ والسنةِ فرْضٌ، ولا يُفْهَمُ إلاّ بفهمِ اللغةِ العربيةِ، ومَا لا يتمُّ الواجبُ إلا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ”، قيل لعبدِ الملكِ بنِ مرَوَان:” لقدْ عجَّل إليكَ الشّيْبُ يا أميرَ المؤمنينَ”، قال: “شيَّبنِى ارتِقاءُ المنابرِ وتَوقُّعُ اللحْنِ، اللّحنُ فى الكلامِ أقبَح من التّفتيقِ فى الثوبِ، والجُدَرِىّ فى الوجه، الإعرابُ جَمالٌ للوضيعِ، واللّحْنُ هُجْنَةٌ على الشريفِ”، وابن منظور- وهو يبين سبب تأليف لسان العرب- قال:” لم أقْصِد سوى حفظِ أصولِ هذه اللغةِ النبويةِ، وضبطِ فضلِها،إذْ عليهَا مدارُ أحكامِ الكتابِ العزيزِ والسنّةِ النبويةِ، وذلكَ لمَا رأيتُه أنه قدْ غَلَبَ فى هذا الأوَانِ منَ اختلافِ الألْسِنةِ والألوانِ، حتى لقدْ أصبحَ اللحنُ فى الكلام يُعَدُّ لحنًا مردودًا، وصارَ النطقُ بالعربيةِ منَ المعايبِ معدوداً، وتنافسَ الناسُ فى تصانيفِ الترجماناتِ فى اللغةِ الأعجميةِ، وتفاصحُوا فى غيرِ اللغةِ العربيةِ، فجمعْتُ هذا الكتابَ فى زمنٍ أهلُهُ بغيرِ لغتِهِ يفخَرُون، وصَنَعْتُهُ كمَا صنَع نوحٌ الفُلكَ وقومُه منهُ يَسَخرُون”، دخَل أحدُ البدوِ العرب إلى سوق البصرةِ فرأَى الناسَ يَلْحَنُونَ، فَصَرخَ فى وجوههِم “يا عجبًا كيفَ تَلْحَنُون وتُرْزَقُونَ”، دخلَ أحدُ النحاةِ على هشامِ بنِ عبدِالملكِ فلمّا حضرَ الغداءُ، وعاد هشامٌ قالَ لفتيانِه: تَلاحنُوا عليهِ فجعل بعضُهم يقولُ: يا أميرَ المؤمنينَ رأيتُ أبِى فلانٍ، والآخرُ يقولُ: مرَّ بِى أبَا فلانٍ، ونحو ذلك، فلمَّا أكْثَرُوا مِنَ اللحنِ أدخلَ الأعرابِىُّ يدَه فى الصَّفْحَةِ، ثم جعلَ يَطْلِى لحيتَه، ويقولُ لنفسِه ذُوقِى، هذا جزاؤُك فى مجالسةِ الأنْذالِ”.
غيرة الأعاجم
• الغيرة على اللغات- حتى الأعجمي منها- صفة فطرية، أليس كذلك؟
** بالتأكيد، فقال أحد أعضاء مجلس النواب الأمريكى (الكونجرس): “إننا نضع القوانين لمعاقبة المجرمين الذين يسرقون ويقتلون فلماذا لا نضع القوانين لمعاقبة الذين يفسدون اللغة؟” وكذلك قبلت اليابان بتنفيذ شروط المحتل الأمريكي بعد الهزيمة ما عدا شرطا واحدا، وهو قبول إدخال بعض التعديلات على اللغة اليابانية، وفي فرنسا يقولون: “اللغة هي الجنسية”، وفي ألمانيا: “اللغة مادة المواد والمادة العليا” فمثلا المجتمع الفرنسي يسعى بكل ما أوتي إلى عدم سماع أي خدش على لغته، فكل خطأ يعتبر عندهم تعديا على الهوية الفرنسية، بل إن الفرنسي تؤذيه عندما تحدث خطأ في لغته بحيث يعمل فورا على تصحيح الخطأ في كل موقع يتواجد فيه، بل يعمل على إبداء الصواب وفق القواعد المنصوص عليها في فقه اللغة الفرنسية، وفرضت الجمعيات المدنية يوما سنويا لإجراء امتحان في الإملاء يشارك فيه كل الفرنسيين، وتسند جائزة عالية جدا لمن لم يرتكب خطأ في إملاء الفرنسية، فرضت فرنسا غرامة ألفى فرنك فرنسى على من يستخدم كلمة أجنبية واحدة يوجد لها مقابل فى الفرنسية، ولا ننسى أن الوعي بالهوية والقومية دفع فرنسا إلى تنقية لغتها من التلوث اللغوي، الذي أصابها من مفردات الإنجليزية، والعجيب أنك في المقابل تلحظ أن الإنجليزية البريطانية تحرص على تنقية نفسها مما يصيبها من تلوث من الإنجليزية الأمريكية!
الغلو والتطرف
• يحاول أعداء الإسلام وصفه بكل نقيصة وعلى رأسها الغلو والتطرف، فما ردكم على هذا الإتهام؟
** في البداية لابد أن نعرف معنى الغلو وهو مجاوزة الحد، المبالغة في الشئ والتشدد فيه، بتجاوز الحد، أو هو مجاوزة الحد بأن يزاد في الشئ في حمده أو ذمه على ما يستحق، يقال غلا في الدين غلوا: تشدد وتصلّب حتى جاوز الحد، والغلو في الدين: الإفراط فيه، هناك فرق كبير بين الغلو وطلب الأكمل في العبادة وهو من الأمور المحمودة.
الغلو الذي ليس خاصا بالإسلام فقط كما يحاول الأعداء لصقه به فقط دون بقية الأديان التى عانت أيضا من الغلو، وأورد القرآن صراحة نهي الله لهم عن الغلو في الدين، قال تعالى: “قُلۡ یَــٰۤـأَهۡلَ ٱلۡكِتَـٰبِ لَا تَغۡلُواْ فِی دِینِكُمۡ غَیۡرَ ٱلۡحَقِّ وَلَا تَـتَّـبِعُوۤاْ أَهۡوَاۤءَ قَوۡمࣲ قَدۡ ضَلُّواْ مِن قَبۡلُ وَأَضَلُّواْ كَثِیرࣰا وَضَلُّواْ عَن سَوَاۤءِ ٱلسَّبِیلِ”، وقال: “يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ..” وفصّل الله بعض مظاهر هذا الغلو حتى وصل إلى تأليه البشر بقوله: “وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ. اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ”. وغالوا في الدين بتحريف الكلم عن مواضعه، فقال تعالى: “أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ”.
الغلو مرفوض
• نهى الإسلام عن هذا الغلو مما يؤكد براءته منه مهما أدعى المنتسبون إليه أنهم يمثلونه، بماذا نهاهم ديننا الحنيف؟
** هناك كثير من نصوص الكتاب والسنة تذم الغلو وتحذر منه ، فقال تعالى:” یُرِیدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡیُسۡرَ وَلَا یُرِیدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ” وورث الإسلام الحنيقية الوسطية من دين أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام فقال تعالى:” وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ۚ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ۚ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ۖ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ”.
وجاءت نصوص السنة المطهرة لتؤكد نهي الإسلام عن الغلو فقال رسول الله:” إن الدين يسر ولن يشادَّ الدين أحد إلا غلبه، فسدّدوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشئ من الدلجة”، وقال أيضا:” إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولا تبغِّض إلى نفسك عبادة الله، فإن المنبتَّ لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى”، وعندما سئل رسول الله “أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: “الحنفية السمحة” وكان يقول: “لا تشددوا على أنفسكم فيشدّد عليكم، فإن قوما شدّدوا على أنفسهم، فشدّد عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية ابتدعوها ما كتبناها”.
مخاطر الغلو
*وما هي مخاطر الغلو بكل أشكاله؟
** للغلو مخاطر بالغة إذ يؤدي إلى عدم الانسجام بين الروح والجسد، ويؤدي إلى ظلم النفس والآخرين، ويخالف الطبيعة البشرية، بل إنه قد يؤدي إلى الخروج من الملة، فأهل الأديان السابقة لما غالوا في اعتقادهم في رسولهم خرجوا من الملة، وقد يُودِي بصاحبه إلى التهلكة، بل أنه يؤدي إلى ضد المقصود من الاجتهاد في الطاعة، وكذلك يؤدي إلى التنفير من صاحبه، وتبغيض عباد الله في طاعة الله، ألم يقل النبي غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ، فقال: “يا أيها الناس إن منكم منفّرِين، فأيكم أمّ الناس فليوجز، فإن من ورائه الكبير والضعيف، وذا الحاجة”، وأيضا يؤدي بصاحبه إلى الاتصاف بأوصاف قبيحة، ألم يقل رسول الله: “هلك المتنطعون، قالها ثلاثا”، والمتنطعون هم: المتعمقون المغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم، وقد يحرمهم من شفاعة النبي القائل: “صنفان من أمتي لا تنالهما شفاعتي: سلطان غشوم، وغال في الدين، يشهد عليهم ويتبرأ منهم”، وقد يؤدي إلى تحريم غير المحرم، وفيه اتهام للرسول بعدم الأمانة في البلاغ، واتهام لله بالنسيان.
معالجة الغلو
*وكيف يمكن معالجة الغلو؟
** يتم ذلك بوسائل عديدة أهمها: جمع المفاهيم المغلوطة وبيان حقيقتها، وردها بالأدلة والبراهين الساطعة بعد إجماع العدول من علماء الأمة عليها، ونشر ذلك في كل الوسائل الورقية والإلكترونية والمسموعة والمرئية بلغات العالم، ومواجهة كل ما يظهر من صور الغلو بالبيان عن الأخطاء في فهمها، بلغة مقنعة، تجمع إلى الإقناع لطف الحديث وأدبه، ومتابعة الآباء أبنائهم وبناتهم في طاعة الله كمتابعتهم إياهم مما يخشون عليهم من الانحرافات، وكذلك متابعة العلماء تصرفات الشباب والشابات في الطاعات، والتبصير بأخطائها بكل سبيل ممكن، وطباعة كتيبات صغيرة ومنشورات، ومطويات تحذر من الغلو، وتكشف خطره، بلغات متنوعة، ونشرها على المواقع الإلكترونية، ومواجهة ما يعين على الغلو في وسائل الإعلام، من غلو في الانحرافات، والشهوات، بما يعطى أسانيد إلى بعض الشباب والشابات للغو في الدين.
المصطلحات الأجنبية
*وما هي خطورة استخدام المصطلحات الأجنبية حتى في العلوم الإسلامية والعربية؟
** مصطلحات كل لغة نابعة منها متأثرة بمحيطها الثقافي، لئن صح استخدام مصطلحات أجنبية في العلوم التطبيقية لضرورة تقتضيها، فقد نمت تلك العلوم وترعرعت في بيئة أعجمية، فإنه لا يجوز استخدام مصطلحات أجنبية في علوم اللغة العربية، ولغتنا فيها من الطاقات والثراء ما يمكّنها من تلبية مطالب العصر، فلقد نقل الأوائل علوم اليونان، واعتصروها وأضافوا إليها، وكل ذلك بلغة عربية مبينة، وابن سينا، والخوارزمي، وابن الهيثم، وغيرهم يفيض تراثهم بذلك، ومن المسلم به أن المصطلحات النقدية في الغرب نبتت في بيئة ثقافية، وظروف محيطة بها، وقد نقلها النقاد الحداثيون العرب بحمولاتها الثقافية التي لا تلائم بيئتنا، ولا قيمنا، ثم هي غير مستقرة في بيئتها، فكيف يكون لها استقرار في المشهد النقدي العربي؟!
تجديد الخطاب
• كثر الجدل حول تجديد الخطاب الديني، فما هي رؤيتكم لأهميته؟
** إن تطور الحياة المتسارع، وتنامي المشكلات، وتنوعها، وتكاثر الوقائع، وتكاثف المستجدات، واتساع كون الله، وتجاوز البشر الكرة الأرضية إلى كواكب أخرى، كل ذلك مما يجعل تجديد الخطاب الديني ضرورة لا محيص عنها، وحاجة للمسلم لا غناء عنها، وتلبية للتطور لا مفر منها، إن تنوع المذاهب الفقهية، واختلاف أبناء المذهب مع بعضهم أحيانا، أو مع رأي صاحب المذهب، كل ذلك في مسيرة الفقه الإسلامي كان آية من آيات تجديد الخطاب الديني، وتفاعل الفقهاء مع المستجدات حسب الزمان والمكان، ولم يثرّب أحد على أحد، وإنما كان ذلك في إطار من احترام تنوع الآراء لتنوع الوقائع، ولأن النصوص الشرعية حمالة، مادام ذلك كله في الإطار المشروع، وما صنيع الإمام الشافعي منا ببعيد فلقد كتب فقهه مرة في العراق، وكتبه أخرى في مصر، وعرف الأول بالمذهب القديم، وعرف الثاني بالمذهب الجديد، إن حتمية التجديد لا تعني الاعتساف في تأويل النصوص، أو الانحراف بها عن مرادها، لكنها تعني فهم النصوص في ظلال مقاصد الشريعة الكلية، والعناية بسياقات النصوص، وفهم العربية، والنصوص الشرعية تستوعب الفهوم، وكلها تتعانق، ولا تتعاند، والواقعة الشهيرة حينما قال رسول الله:” لا يُصَلِّيَن أحدُكم العصر إلا في بني قريظة” اختلف الصحابة، فمنهم من أوّله على أن المراد الحثّ على الإسراع في الغزو، ومنهم من حمله على ظاهره، وكل طبّق حسب فهمه، وحينما عُرض الأمر على الرسول ما خطَّأ أيا من الفريقين.
ضوابط التجديد
*وما هي ضوابط التجديد؟
** التجديد له ضوابطه شأن كل علم، وأهم الضوابط: مراعاة الاختصاص: فكما لا يجدد في علوم الهندسة والطب وغيرها إلا المختصون، فكذلك أيضا يكون تجديد الخطاب الديني شأن علماء الدين، وهي حقيقة قررها القرآن “فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ”، كذلك لابد من التجرد من الهوى، ورحم الله الشافعي إذ يقول: “ما جادلت أحدا إلا دعوت الله أن يجري الحق على قلبه ولسانه، فإن كان الحق معي اتبعني، وإن كان الحق معه اتبعته”، فلابد من الاعتصام بالأصول والثوابت الإسلامية، فالعقيدة وأركان الإسلام وقدسية النص القرآني والأركان الخمسة من الثوابت، لكن آراء أهل العلم في الأمور غير الثوابت قابلة للنقاش، ومن هذه الضوابط الاعتراف بقصور العقل البشري، فهو محدود بإطار الزمان والمكان، ومكتسباته المعرفية، وعلى قدر ذلك تكون طاقته، ومن المحال أن يحل محل الوحي السماوي، ومن ضوابط التجديد أن يمحض إلى الإصلاح فالإصلاح كان مهمة الأنبياء والرسل، فليس التجديد ترفا فكريا، وإنما رسالة أعظم خلق الله.
الإلمام بالعربية
• هل يشترط في المجدد الإلمام باللغة العربية؟
** بالتأكيد لأن من الضوابط الالتزام بأساليب العربية وقواعدها في تفسير النصوص، وإلا اختلطت الأمور، فاللغة العربية هي وعاء الشريعة، ومن ملك أية لغة أخذ بناصية العلوم التي كتبت بها، والعربية لسان متسع بسيط، قال عنه الشافعي في الرسالة “ولسان العرب أوسع الألسنة مذهبا، وأكثرها ألفاظا ولا نعلمه يحيط بجميع ألفاظه إنسان غير نبي” ومن أهم الضوابط عدم الاعتماد على نص واحد في الحكم وإغفال بقية النصوص التي وردت فيه، وهذا ما وقع فيه المستشرقون والمجترئون من بني جلدتنا حيث أعملوا أقلامهم في نص واحد بمعزل عن غيره، وبنوا على ذلك آراء، وسوّقوها على أنها هي الإسلام كتفسيرهم أن الإسلام انتشر بقوة السيف، اعتمادا على بعض النصوص القرآنية التي فهموها بمعزل عن مساقها، ولعمري لئن كان انتشار الإسلام بالطريق الذي زعموا فأي سيف له الآن حتى ينتشر هذا الانتشار المتسارع في قلب أوربا وأمريكا، بل في أوساط أهل العلم والمثقفين! فالمسلمون في أوروبا وأمريكا عشرات الملايين وفي تزايد مستمر رغم أن المسلمين في أضعف أحوالهم!
نماذج عملية
• نريد نماذج عملية للرد على المشككين في أهمية “العربية” للمجدد؟
** أثبتت الدراسات الحديثة أن اللغة العربية على اتساعها لكنها أوجز اللغات وأوفاها، وأن التراث الإنساني لو كتب بالعربية لاختصر إلى حجم الثلث، كما أثبتت أن العربية آخر لغات العالم موتا، والمجترئون على النصوص الشرعية يخلطون في الفهم ويلبسون في الرأي، فما رأيك في رجل يؤول الفعل (اجتنبوه) بأن معناه اجعلوه جنبكم من قول الله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ”. وبنى على هذا التأويل الفاسد أن الخمر والميسر ليسا حراما، وذلك لأن معنى اجتنبوه عنده اجعلوه جنبكم، وهذا من أعظم الجرأة، أو كالذي استهزأ بالفقهاء لقصرهم أعمال الحج على أيام ذي الحجة الأولى، ورأى أن يوزع الحج على أشهر زعما منه أن القرآن أراد ذلك بقوله: “الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ”! وغير ذلك من الخزعبلات التي تزعم أنها قراءة عصرية للإسلام، وفي الحقيقة هي لا تدل إلا على الجهل بالعربية، وافتقاد أدنى شرائط فهمها.