بقلم د. ناجح إبراهيم
آخر كلمتين نطقهما قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة لخَّصا حياته كلها وسجله المشرق النوراني”الله حق, الموت حق” ثم نطق الشهادتين, الكلمتان مثلتا مفتاح شخصيته, كان نموذجاً صوفياً رائعاً شفيقاً رقيقاً رفيقاً زاهداً قوياً عالماً أبياً عابداً ذاكراً ورعا.
التصوف استعداد فطرى تصقله المجاهدات الصحيحة والعلم بالله وبأمر الله, فهو ليس موالد تقام وطبولاً تدق وبيارق ترتفع أو ورع كاذب, والذي يدعي التصوف والزهد دون استعداد حقيقي له كمن يدخل الحرب بغير سلاح.
كان صوفياً زاهداً حسبه البعض ضعيفاً في الحق والدفاع عن الشريعة ولكنه هبَّ كالأسد في مواجهة فكرة مشروع قانون الأحوال الشخصية، وقفت وراءه السيدة/ جيهان السادات حتى سمِّي وقتها بقانون “جيهان” وكان يتضمن مخالفات كثيرة للمستقر في الشريعة الإسلامية في مسائل الطلاق والتعدد وغيره فأصدر بياناً شديد اللهجة ضد القانون وأرسله للمسؤولين والبرلمان والصحف ولكن الأخيرة لم تنشره بأوامر صدرت لها، وأمام إصراره لم تجد الحكومة بداً من إلغائه.
قبلها بفترة أصدر السادات قانون 1974 الذي يجرِّد شيخ الأزهر من اختصاصاته ويمنحها لوزير الأوقاف والأزهر, وكان الأزهر وقتها يتبع وزير الأوقاف, فقدم استقالته لأن هذا القرار يغض من قدر المنصب الجليل ويعوقه عن أداء رسالته الروحية، ذهب الإمام بعدها إلي منزله ورفض تناول مرتبه وطلب تسوية معاشه، وأحدث ذلك وقتها هزة في مصر والعالم العربي.
تدخل الحكماء في الأمر فأصرَّ الشيخ علي موقفه حتى ألغي القرار بآخر يُنصف الأزهر ويجعله مستقلاً وينص علي أن “شيخ الأزهر هو الإمام الأكبر وصاحب الرأي في كل ما يتصل بالشؤون الدينية والمشتغلين بعلوم القرآن وعلوم الإسلام وله الرياسة والتوجيه في كل ما يتصل بالدراسات الإسلامية والعربية في الأزهر” وتصحيحاً لتبعيته السابقة لوزير الأوقاف صدر القرار بمعاملته معاملة الوزير ثم عدِّلت إلي مساواته بمنصب رئيس الوزراء في عهد مبارك وبعد وفاة الإمام العظيم.
كان الإمام بعد عودته من فرنسا يلبس “البدل العادية” وقد حزن حزناً كبيراً حينما هاجم الرئيس عبدالناصر الأزهر بقوله: “إنهم يفتون الفتوى من أجل ديك يأكلونه” شعر الظلم الذي وقع علي الأزهر، فلم يستطع أن يفعل شيئاً سوى أن يخلع الملابس الإفرنجية ليرتدي الزى الأزهرى الذي لم يخلعه حتى مات.
عاش حياته كلها مع الأولياء والعلماء الأحياء منهم والأموات, يفكر فيهم أو يتحدث عنهم ويكتب أخبارهم ويلتمس القدوة منهم, كانت أطروحته للدكتوراه “عن الحارث المحاسبي” الذي تأثر به كثيراً, حصل عليها من السوربون بامتياز مع مرتبة الشرف الأولي وقررت الجامعة طبعها بالفرنسية، بهر أساتذته الفرنسيين بأخلاقه وعلمه, فأسلم أستاذه المستشرق اليهودى.
بلغت جملة مؤلفاته قرابة مائة كتاب، وهو الرائد في الكتابة عن أئمة الزهد والتصوف مثل حجة الإسلام الغزالي, الشاذلي, وعلي زين العابدين وسهل التسترى والثورى والدردير وأبي العباس المرسي وأحمد البدوى والفضيل بن عياض وبشر بن الحارث وذى النون المصرى والبسطامي والليث بن سعد وسعيد بن المسيب والشبلي وابن عطاء السكندرى.
أفرد لكل منهم كتاباً، فالزاهد يحب الزهاد ويكتب عنهم ويسعد بسيرتهم وأهل الله يحب بعضهم بعضاً, جمعهم حب المحبوب الأعظم “الله سبحانه”.
علم الله فيه الخير فأشهده الاستعداد لحرب أكتوبر ونصرها وفتحها وبركتها، وساهم بقسط واسع في تشجيع الجيش علي الفداء والشهادة.
لقد جمع د. عبدالحليم محمود، العلم بالله مع العلم بأمر الله, والشريعة والحقيقة, وصلاح الظاهر والباطن, وطهارة القلب وعفة اللسان واليد, والصدع بالحق والرحمة بالخلق, وهو الذي أحيا الأزهر بعد موات, وأشبه الناس بالدكتور عبدالحليم محمود هو الإمام الحالي د. الطيب, وقد ذكرت له ذلك فاستحي بتواضع قائلاً: أين أنا من هذا الصرح العظيم؟!