قال اللهُ سبحانه وتعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء: 36].
بدأتِ الآيةُ الكريمةُ بالأمرِ بعبادةِ اللهِ تعالى والنهيِ عن الإشراكِ به، وكيفَ يُشركُ الإنسانُ باللهِ تعالى واللهُ سبحانه هو الذي أوجدَهُ مِن عدمٍ، وهو الذي أمدَّهُ بما تستمرُّ به حياتُه؟! وهاتانِ نعمتانِ عظيمتانِ، يقولُ سيدي ابنُ عطاءِ اللهِ السَّكندريُّ (709 هـ): نعمتانِ ما خرَجَ موجودٌ عنهما ولا بُدَّ لكلِّ مُكوَّنٍ [موجود] منهما؛ نعمةُ الإيجادِ ونعمةُ الإمدادِ، أنعمَ عليكَ أولًا بالإيجادِ، وثانيًا بتَوالي الإمدادِ. فعلى الإنسانِ إذنْ أنْ يعبدَ ولا يشركَ به شيئًا.
وبعدَ الأمرِ بالعبادةِ والنهيِ عن الشِّركِ جاءَ الأمرُ بالإحسانِ إلى الوالديْنِ، وهذا مُكررٌ في كتابِ اللهِ تعالى، قال سبحانه: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الأنعام: 151]، وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]، وبذلكَ نزَلَ الوحيُ لِمَن قبلنَا فأُمرُوا بالإحسانِ إلى الوالدَيْنِ بعدَ الأمرِ بعبادَةِ اللهِ تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [البقرة: 83].
ولا شكَّ أنَّ الوالديْنِ لهما أعظمُ الفضلِ على الإنسانِ، وأولُ هذا الفضلِ أنهما السببُ في وجودِه، وهما من ربيَّاه ورعيَاهُ، فهما سببُ نِعمتَي الإيجادِ والإمدادِ، ولذا جاءَ الأمرُ بالإحسانِ إليهما عقبَ الأمرِ بتوحيدِ اللهِ تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}.
ونلحظُ أنَّ الأمرَ بالإحسانِ إلى الوالديْنِ جاءَ بصورةٍ واحدةٍ في أربعةِ مواضعَ في كتابِ اللهِ تعالى منها الآيةُ التي في صدرِ هذا المقالِ، وثلاثةُ الآياتِ التي ذكرنَاهَا سابقًا.
وأصلُ هذا التركيبِ: (وأَحسنُوا بالواديْنِ إحسانًا)، فهذا أمرٌ بالإحسانِ، وهنا ملمحانِ بلاغيانِ دقيقانِ بيَّنهما السادةُ المفسرونَ، فالأصلُ أنْ يقالَ: (وأحسنوا إلى الوالديْنِ إحسانًا)، ولكن الذي نزلَ به الوحي الشريفُ {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} فالبدءُ بلفظِ (الوالدين) بعد حذفِ فعلِ الأمرِ (وأحسنوا) مُشعرٌ بالعنايةِ بشأنِهما، فينبغي أنْ يهتمَّ بهما الولَدُ كما اعتنَى بهما الخالقُ سبحانه، هذا أمرٌ.
وثَمَّ أمرٌ آخرُ، هو أنْ (أحسَنَ بِفُلانٍ) فيه معنًى ليس في (أحسَنَ إلى فلانٍ)، فالتركيبُ الأولُ (أحسَنَ بفلانٍ) مُشعرٌ بوجودِ لطفٍ مع الإحسانِ، واللطفُ إحسانٌ خفيٌّ يُضافُ إلى الإحسانِ الظاهرِ، فكأنَّ الآيةَ نزلتْ آمرةً الولَدَ أنْ يُحسنَ إلى والدَيْهِ وأنْ يكونَ إحسانُهُ إليهما ممزوجًا بلطفٍ، فهو يَتلطفُ بهما ويُحسنُ إليهما.
وكلمةُ (بالوالدين) تُشيرُ إلى أنَّ الأمرَ بالإحسانِ إليهما لمجردِ الوَالديَّةِ حتى وإن كانا مخالفَيْنِ في الدِّين، قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 14، 15].
وها هي السيدةُ أسماءُ بنتُ أبي بكرٍ الصدِّيقِ رضي الله عنهما جاءَتْها أُمُّها وهي مشركةٌ لا ترغبُ في الإسلامِ، فسألتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: هل تَصلُهَا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «نعم صِلِي أُمَّكِ» [متفق عليه]، والصِّلةُ تشملُ كلَّ معاني الإحسان والبرِّ.