بقلم: د.صبحي زُردق
استشاري المخ والأعصاب والطب النفسي
وباحث في الاعجاز الطبي
القرآن الكريم كتاب الله و كلامه المُعجز الذى تحدى به البشر أن يأتوا ولو بسورةٍ من مثله ، و هو ليس فقط كتاب هداية ، بل لم يترك علم من العلوم التجريبية إلا و قد أشار إليه مصداقاً لقوله تعالى (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ)الأنعام ٣٦. وقوله تعالى (مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) يوسف
ومن عظمة هذا الكتاب أنه أشار في أكثر من موضع – بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر – إلى بعض أعراض أو أمراض أو وظائف بل وتشريح المخ البشري و هو ما يُعرف حالياً باسم علم الأعصاب Neurosience ، و من أمثلة ذلك ما يلي :
منطقة الناصية
قال تعالى (كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ) (نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ) العلق ١٥ ،١٦..( لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ ) قال الطبرى أي: لنأخذنّ بمقدم رأسه ، ووصف الناصية بالكذب والخطيئة، والمعنى لصاحبها.
وبالتالى فقد أشارت تلك الآيات المباركات إلى دور الفص الجبهي من الدماغ، الذي يقع داخل الناصية، في توجيه سلوك الإنسان، والتحكم في القول والعمل، لذلك يمكن أن يشار إلى منطقة الفص الجبهي بما فيها من مراكز وامكانيات بأنها المنطقة المسئولة عما يصدر من الخطأ والصواب، والصدق والكذب.
اصابات الرأس الرضية
(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ) الانبياء 18 قال الجزائرى: فيدمغه: أي يشج رأسه حتى تبلغ الشجة دماغه فيهلك، وهذا على سبيل التمثيل بما قد يحدث فى الواقع اثناء الاقتتال.و هو إشارة إلى ما يسمى فى علم الأعصاب باصابات الدماغ الرضية TBI و التى قد ينتج عنها نزيف بالمخ أو كسور بالجمجمة تسبب الغيبوبة أو الموت السريع وهى حالات معلومة لدى جراحي المخ.
وظيفة النطق
المخ به مركزان يختصان باللغة والكلام، أحدهما لفهم الكلام المسموع وتدبر معانيه وبالتالى الانتفاع به و يُسمى بـــ “منطقة فيرنك ” و هى المنطقة التى أشار إليها القرآن اشارة غير مباشرة فى قوله تعالى (وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا) قال بن كثير يَعْنِي: لَيْسَ يَنْتَفِعُونَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْجَوَارِحِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ، وقال الطبرى : لا يسمعون آيات كتاب الله، فيعتبروها ويتفكروا فيها ، و المركز الآخر مخصص لنطق الكلام و التعبير اللفظي ويسمى بــــ”منطقة بروكا” و هى المنطقة التى اشار إليها القرآن إشارة غير مباشرة فى قوله تعالى (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) الذاريات ٢٣ ، والتى تقع في الفص الجبهي بالمخ
.
وظيفة الوعي
الوعي وظيفة مهمة من وظائف المخ في علم الأعصاب والمسئول عنها هو الجهاز الشبكي المنشط RAS، وإذا غاب الوعى غابت معه استجابة المخ للمنبهات الخارجية من ابصار أو صوت أو رائحة و غابت كذلك الحركة ، و قد ورد الإشارة إليه في قوله تعالى (فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)الأعراف ١٤٣.قال بن عاشور: والخرور السقوط على الأرض. والصعق: وصف بمعنى المصعوق، ومعناه المغشي عليه من صيحة ونحوها والإفاقة: رجوع الإدراك بعد زواله بغشْي، أو نوم، أو سُكر، أو تخبط جنون.. و هو ما يعنى أن موسى عليه السلام غاب عن وعيه غياباً مؤقتاً من هول الموقف الذى رآه بعينه و هو الاندكاك المخيف للجبل العظيم بدليل فلما أفاق.
التفكير الاستباقي
التفكير الاستباقي Anticipatory thinkingهو أخذ التدابير و الاحترازات الاحتياطية اللازمة تفادياً لخطر ما ،و هو وظيفة ذهنية كبرى يحتاجها الأفراد والفرق. وهى أيضا القدرة على الاستعداد في الوقت المناسب للمشاكل والهجوم المتوقع و الفرص السانحة، و هو إحدى وظائف المخ في علم الأعصاب و الذى أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَىٰ أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ ۖ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ) النساء١٠٢ – قال بن كثير: بحيث تكونون على أهبة إذا احتجتم إلى اسلحتكم لبستموها بلا كلفة.. وكذلك التجهيز المسبق الذى أعده و خطط له ابن النبي نوح عليه السلام بالصعود إلى جبلٍ مرتفع تجنباً للموت غرقاً إذا ما جاء الطوفان المغرِق (قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ) هود43
ضَعف العقل
المخ البشرى له وظائف عُليا تُعرف باسم الوظائف أو المهارات المعرفية أو القدرات الذهنية Cognitive functions، والتى يقاس على أساسها ذكاء الإنسان، فإن كان الذكاء منخفضاً كان الشخص ضعيف عقلياً ،و ضعفاء العقول قد ذكرهم القرآن الكريم فى أكثر من موضع باسم “السفهاء ” منها (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَٰكِنْ لَا يَعْلَمُونَ) البقرة ١٣ – قال بن عاشور : والسفهاءُ جمع سفيه وهو المتصف بالسفاهة ، والسفاهة خفة العقل وقلة ضبطه للأمور ، أو هو ضعيف الرأي .. و فى طب الأعصاب قد يصاب الإنسان بــ”خفة العقل وضعف قدراته” في كثير من الأمراض النفسية و العقلية مثل: الفصام أو التخلف العقلي، أو مرض الشيخوخة فيما يعرف بًــ ” الزيهايمر”
الألم الجسدي Pain
لكي يشعر الإنسان بالألم الجسدي من جلده مثلاً أثناء لمس لهب من النار لابد من إثارة مستقبلات الألم Nociceptors في جلده أولاً ثم تنسال إشارات الألم تلك عبر الأعصاب الحسية الطرفية ثم إلى الحبل الشوكي صعوداً إلى المخ إلى مركز الألم في منطقة تسمى المهاد Thalamus ثم إلى قشرة المخ في الفص الجداري لتحليل الألم و معرفة شدته و نوعه ..
أما إذا حرقت مستقبلات الألم بسبب حريق جلدي شديد فلن يشعر الإنسان بألم الحرق، و هو ما أشارت إليه الآية الكريمة ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ) النساء ٥٦.. و بالتالى فتلك الآية قد أشارت إلى مسار الألم كله بدايةً من مستقبلات الألم بالجلد وصولاً إلى الفص الجداري للمخ.
حالة الصداع Headache
الصداع فى طب الأعصاب هو ألم و و عدم ارتياح في الرأس أو الرقبة أو الوجه، وينقسم إلى نوعين رئيسيين: صداع أولي و صداع ثانوي ، ومن الصداع الثانوي الصداع الناشىء عن خمر الدنيا و هو الصداع الذى لا تسببه خمر الجنة ، و قد أشار القرآن الكريم إلى ذلك الفرق بين خمور الدنيا و خمر الجنة في قوله تعالى ( لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا ) الواقعة ١٩ إشارةً إلى ما يعرف طبياً بًــ” الصداع الثانوي المستحث بالكحول” Alcohol induced headache
مهارة البصيرة
البصيرة Isight هى احدى الوظائف المعرفية المهمة بالمخ، لدرجة أنها تفصل في الطب النفسي بين مرضى العِصاب (كمرضى الوسواس القهري) ومرض الاختلال العقلي (الذُهان) حيث تكون البصيرة كاملة في الأول، ومفقودة أو ناقصة في الثانية. وتعرف طبياً على أنها قدرة الشخص على أن يعيد فجأة تفسير منبه ما أو موقف أو حدث. أو هى القدرة على إعادة تقييم الأفكار والمعتقدات من أجل التوصل إلى استنتاجات منطقية . وقد أشار القرآن إلى تلك المهارة الذهنية المهمة فى قوله تعالى (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) القيامة ١٤، قال بن كثير أي: هو شهيد على نفسه، عالم بما فعله ولو اعتذر وأنكر.
مهارة التذكر
فى علم الأعصاب فإنه لكي يتذكر إنسان معلومة أو حقيقة أو صورة ما فلابد و أن يكون قد خزنها مسبقاً في الذاكرة، لذلك فإن الذاكرة القوية تحتاج إلى : معالجة المعلومات في شكل يسهل تخزينه في خلايا المخ و يمكن استرجاعه و تذكره عند الحاجة إليه . و قد أشار القرآن إلى مهارة التذكر فى أكثر من موضع منها قوله تعالى :(وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ابراهيم ٢٥، تفسير الوسيط : هو بيان للحكمة التي من أجلها سيقت الأمثال، وهي التذكر والتفكير والاعتبار. أى: ويضرب الله- تعالى- الأمثال للناس رجاء أن يعتبروا ويتعظوا ويتذكروا ما أمرهم سبحانه بتذكره إذ ضَرب الأمثال تقريب للبعيد، وتقرير للقريب، وتصوير للمعاني المعقولة بالصور المحسوسة.
داء النسيان
داء االنسيان أو صعوبة التذكر فى علم الأعصاب هو الفقدان الواضح أو التغيير للمعلومات المشفرة والمخزنة مسبقاً فعلياً في ذاكرة الفرد القصيرة أو طويلة المدى، وهو داء له أسباب عديدة فى الطب، نفسية وعضوية. و قد أشار القرآن إلى “داء النسيان” في أكثر من موضع منها قوله تعالى (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّىٰ أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي) المؤمنون ١١٠، و في قوله تعالى (قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ) الكهف ٧٣
وظيفة الإبصار
لكي يُبصر الإنسان الأشياء على حقيقتها هناك مسار عصبى خاص بالرؤية يمتد من العين إلى مركز البصر بالمخ Visual pathway لكن أولاً لابد لكى نبصر الأشياء من توافر إضاءه تعكسها تلك الأشياء إلى العين السليمة لتتكون صورتها على شبكية العين بشكل مقلوب والتى تذهب إلى مركز الإبصار في الفص الخلفي للمخ ليعدل الصورة المقلوبة وبالتالى رؤية الأشياء على حقيقتها.
وقد أشار القرآن في أكثر من موضع إلى وظيفة الإبصار، من ذلك قوله تعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا) إشارة إلى أن ضوء النهار هو السبب فى رؤية الأشياء وتنشيط المسار العصبى الخاص بالرؤية الممتدد من العين إلى المخ بالنسبة للشخص السليم. أيضاً قد أشار القرآن إلى “داء العمى” في أكثر من موضع منها (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ) الأنعام ٥٠، والعمى له أسباب عديدة منها ما هو خِلقى ومنها ما هو مكتسب، أخص بالذكر منها ما يسمى بالعمى القشري Cortical blindness والذى يحدث نتيجة أفة تسبب تلف مركز الابصار فى قشرتي الفصين الخلفيين بالمخ.
وبتلك النماذج من الآيات القرآنية -على سبيل المثال لا الحصر- نجد أن القرآن الكريم قد أشار بشكل مباشر تارة و بشكل غير مباشر تارةً أخرى إلى علم الأعصاب من الجانب التشريحى والجانب الفسيولوجي(الوظائف) و الجانب المرضي، بما يثبت للعالم أجمع أنه كتاب الله وكلامه، وأنه لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً . فالحمد لله على نعمة القرآن العظيم