السنة النبوية ضرورة يقتضيها الدين، لا مِن حيثُ إنها بيانٌ وتفصيل لما أُجمل في القرآن الكريم فقط، ولكن أيضًا من حيث إنها في مُجملِها الصورةُ الحيَّةُ الواقعية للدين، والتطبيقُ العمَليُّ له في الحياة. ومن حيث ضرورةُ وجود أسوةٍ يَأْتسِي بها الناس ويَتمثَّلُونها في تطبيق هذا الدين، ولولا هذه الأسوةُ لاختلفَ الناس في فَهمِ الدينِ وتطبيقِه اختلافًا شديدًا قد يصلُ إلى القتال والتناحر، ولتَوقَّفَ آخرون عن تطبيقه بدعوَى تَعذُّرِه أو جَهلِهم به!
فبيانُ الرسولِ الكريم للكتاب الذي جاء به، وجَعلُه واقعًا حيًّا بين الناس، وتَقويمُه لأفعال مَن حولَه بِناءً على تعاليمه، وأوصافُه الخُلُقية وهيئتُه التي اتَّسمتْ بسماتِ هذا الوحي، كلُّ هذا هو سُنته التي لا بُدَّ منها حتى ينتفعَ الناسُ بالوحي.
وإذا كان هذا ضرورةً في كلِّ وحي سماويٍّ، فإنه في الإسلام أشدُّ ضرورةً وأعظمُ تأكيدًا؛ لأنَّ الإسلام يتميّز بأنه الدين الخاتَم لكل العالمين، وهذا كما أنه يقتضي وجود سُنةٍ تُبيّن للناس كيف يطبّقون هذا الدين العالَميَّ الخاتم بحسَب اختلاف الأحوال والأزمان، فإنه يقتضي أيضًا أن تظلَّ هذه السُّنة باقية ما بقِيَ مخاطَبون بهذا الدِّين، فالسنةُ إذن ضرورةٌ يقتضيها الدين كما يقتضي أيضًا أنْ تبقَى حيّةً محفوظةً، وإلا لَمَا أدركَ البشرُ كيف يجعلون هذا الدين واقعًا معيشًا؟!
وقد يرفض البعض هذا الكلام، ويرى أن القرآن الكريم محفوظ من حيث إنه منقول بتواترٍ؛ أي من خلال جمعٍ كبير من الناس عن جمع كبير آخرَ يستحيل اتفاقُهم على الكذب، في حين أن أغلب السنة منقول عن طريقِ آحادٍ أي: أفرادٍ لم يبلغوا حدَّ التواتر، وبالتالي فهي لديهم محلُّ شكٍّ وارتياب.
وأصحاب ذلك الرأي لم يدرسوا بدقة طرائقَ نقل السنة وشروطَ قَبولها وردِّها، حتى يكون حكمُهم بالرفض مبنيًّا على أساسٍ من العلم صحيح.
ثُم إنَّ التزامهم بمبدأِ الشكِّ بسبب النقل غيرِ المتواتر يُلزمُهم أن يَرفضوا -تبعًا لنفس المبدأ- كلَّ معرفة أو ثقافة أو علم نقله إلينا أفراد من الناس، فيرفضوا كل تاريخ نقله إلينا آحاد المؤرخين ولم نقف له على آثار ملموسة. بل عليهم أن يتوقفوا في قَبول الأخبار الحاليَّة التي ينقُلُها إلينا أفراد قلائل.
وعليهم أن يرفضوا الأحكام القضائية التي يُحكَم فيها بِناءً على شهادة أفراد. ويرفضوا كذلك كل درجةٍ عِلمية تُمنح لباحث؛ لأنَّ مانحها في الواقع أفراد لا يبلغون عدد أصابع يد واحدة. وأن يتشكَّكوا في أيِّ تشخيص طبيٍّ يقوم به طبيبٌ واحد.
بل على مذهبِ أولئك يلزم التشكّكَ في كل الرسالات السماوية والكُتبِ المنزلة جميعِها؛ لأنها في أصلِها نَقلُ بشرٍ واحدٍ فقط هو الرسول الذي بلَّغَها!
والتفريقُ بين السُّنة وبين غيرها في هذا الأمر تَعنُّتٌ سافرٌ ليس من المنهج العلميِّ السديد، ولا من التفكير العقليِّ المتزن.
وإذا قال أولئك: إنَّ السنةَ دينٌ فينبغي أن يُتشدّدَ فيها، نقول: نعم هذا صحيحٌ، وقد قام العلماءَ بذلكَ فعلًا، ولكنكم لم تقفوا على شئ من جهودِهم، فرفضتم السنة رغم اعتمادِها على مناهج قويمة لم يدرك طرَفًا منها شيءٌ مما قبلتموه من المعارف التي بنيتم على أساسها أحكامًا ودراساتٍ عِلمية تبلغُ مبلغَ اليقين أو تكاد، فأساسُ ذلكَ الرفضِ ليس مقبولًا.. لا بمعيار الدين، ولا بمعيار العلم، ولا بمعيار العقل، ولا بمعيار الواقع الإنساني، ولا بمعيار الخُلُق الذي يقتضي الإنصاف.