بقلم: أ . د / محمد عباس عبدالرحمن المغنى
أستاذ ورئيس قسم الدعوة والثقافة الإسلامية بكلية أصول الدين القاهرة جامعة الأزهر
إن فلسفة الحج إلى بيت الله الحرم تكمن فيما أودعه الله تعالى فى هذه الفريضة المتميزة والشعيرة المقدسة من أسرار ربانية، وحكم إلهية، وغايات تعبدية، ومقاصد تشريعية ، ومنافع دينية ودنيوية؛ يجب على المسلمين أن يتأملوها ويتدبروها ويحولوها إلى واقع ملموس حتى تتحقق غايات الحج وفلسفته التشريعية؛ فيسعدوا في الأولى والأخرة.
وللحج أسرار، وحكم، وفلسفة لا تنكشف إلا لمن فهم أسرار كتاب الله ، وذاق حلاوة الإيمان به، فالحج عبادة العمر ، وختام الأمر، وتمام الإسلام ، وكمال الدين.
ومن فلسفة تشريع عبادة الحج فى الإسلام أنه يعد تدريب عملي على تحقيق السلم المجتمعي، والأمن الاجتماعي، فرحلة الحج المقدسة تغرس في نفس المسلم معانى السلام والأمان لكل من حوله من بداية الرحلة لنهايتها، فشهور أداء فريضة الحج هي شهور الأمن والسلام، وهى الأشهر الحرم ذي القعدة وذي الحجة، والتي حُرم فيها القتال والحرب مصداقاً لقوله تعالى: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ) المائدة 98.
والمسلم حين يُحرم بالحج يكون في حالة سلام مع كل العوالم من الإنسان، والحيوان، والطير، والنبات عملاً بقوله تعالى: (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً)المائدة 96، وقول رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ الحرم الشريف: « لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلا يُعْضَدُ شَوْكُهُ ، وَلا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهُ إِلا مَنْ عَرَّفَهَا، وَلا يُخْتَلَى خَلاهُ» رواه أحمد .
والبيت الحرام الذى هو مقصد الحجاج هو أرض السلام والأمن كما قال تعالى(وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ) البقرة 126 وكما قال سبحانه( وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً)آل عمران 98.وهكذا يتدرب المسلم على مبادئ السلام عملياً ليظل هذا الخلق مصاحباً له فى حياته ومع من حوله.
ومن فلسفة الحج فى الإسلام ما يحققه الحج من مقاصد اجتماعية واقتصادية فالمتأمل فى فريضة الحج يدرك أن من أهم غاياتها تحقيق المنافع للناس، فقد قرن الله تعالى بين الدعوة إلى الحج، وبين منافعه الدنيوية، وغاياته الدينية التي تعود على الفرد والأمة بالنفع العميم؛ لتبادل المنافع التجارية بين المسلمين، فقال سبحانه وتعالى : ( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ )سورة الحج. وهذا التعليل الإلهي لفريضة الحج يفتح باب التأمل القرآني في المنافع المشهودة في الحج ، ففيه منافع دنيوية ودينية؛ فيمكن للحاج أن يجمع بين الحج والتجارة، فيتاجر تجارتين للدين والدنيا معاً ،وهذا مما شرعه الإسلام، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال” كَانَتْ عُكَاظُ، وَمَجَنَّةُ، وَذُو المَجَازِ أَسْوَاقًا فِي الجَاهِلِيَّةِ، فَتَأَثَّمُوا أَنْ يَتَّجِرُوا فِي المَوَاسِمِ، فَنَزَلَتْ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} البقرة: 198. فِي مَوَاسِمِ الحَجِّ ” رواه البخاري، والفضل هو التجارة، والمنافع المشهودة فى الحج هى التجارة فى الموسم، والأجر فى الأخرة.
ومن فلسفة فريضة الحج الواضحة ومن حِكمه الدينية، وأسراره الروحية أنه يبعث في نفوس المسلمين الشعور بالمساواة والوحدة والاتحاد، والتي هي أساس عزة الأمة الإسلامية، ومصدر قوتها ، حيث يتجمع الحجيج من مشارق الأرض إلى مغاربها فى صعيد واحد ، لا فرق بين أبيض وأحمر ، رغم اختلاف لغاتهم ، وجنسياتهم ، وألوانهم ،وأوطانهم فالكل قد اجتمع فى زمان واحد (الحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) البقرة 197، والكل في مكان واحد هو مكان أداء المناسك؛ لتتحقق المساواة بمجيء الإسلام ولتصبح المساواة بين الناس جميعاً من أهم حكم الحج ومقاصده، وهذا ما أعلنه الحبيب المصطفى فى حجته التى ودع بها الأمة، وصارت دستوراً للمسلمين إلى يومنا هذا بقوله: ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى أَبَلَّغْتُ “، قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللهِ…قَالَ: ” لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ “.رواه أحمد فلا عصبية ولا عنصرية فى الإسلام.
والكل بهيئة واحدة هي لباس الإحرام الأبيض الذى يشبه الأكفان، يستوى فيه الغنى والفقير ،ومن يملك القناطير ومن لا يملك النقير والقطمير، وبنداء واحد هو نداء الحق عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُهِلُّ مُلَبِّدًا يَقُولُ: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالمُلْكَ، لاَ شَرِيكَ لَكَ» لاَ يَزِيدُ عَلَى هَؤُلاَءِ الكَلِمَاتِ) رواه البخاري كتاب الحج ، وبتوجه واحد لإله واحد هو رب العالمين {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ}البقرة، وبقصد واحد هو قبلة المسلمين البيت الحرام وفى موقف واحد هو صعيد عرفات «الْحَجُّ عَرَفَةُ » رواه النسائي.
وساعتها يستشعر المسلم أن الإسلام وطن والمسلمون جميعاً أهله ، وأن الإسلام نسب يوصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن الإسلام هو فطرة الله التي فطر الناس عليها، وأن المسلمين أمة واحدة مهما تباعدت بهم الأقطار وترامت الأطراف فهم يمتلكون أهم مقومات الوحدة والاجتماع على كلمة سواء ، وتسطيع إن تجمعت كلمتها ، وتآلفت قلوبها ، واتحدت صفوفها، أن تصنع المعجزات، وتنصر على أعدائها ، وتتجاوز أزماتها ، وتحل مشكلاتها، وتحافظ على مقدساتها، وتدافع عن قضاياها المصيرية ، وتخطط لمستقبلها فى ضوء هذه الروابط الإيمانية ، والأخوة الإيمانية ، والمشاعر التعبدية ، التي تبعث الأمل فى نفوس المسلمين في كل عام بنصرة المسلمين وقيادتهم وريادتهم بين شعوب العالم المعاصر.