من رحمة الله تعالى بعباده أن جعل لهم مواسم وأياماً تكثر فيها النفحات والبركات، ومن هذه الايام يوم عرفة، هذا اليوم الذى تزال فيه الفوارق والطبقات بين بنى الانسان من مختلف الاقطار والبلدان، فالكل سواسية أمام الملك الديان، مصداقاً لقوله تعالى:” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”
ومن تجليات ونفحات يوم عرفة أنه أحد الأيام العشر الأوائل من ذى الحجة، حيث يقف فيه الحجاج على جبل عرفات، وتضج الاصوات بالحاجات وتُسكبُ فيه العبرات، ويبدأ هذا اليوم من فجر اليوم التاسع من ذى الحجة ويمتد حتى طلوع فجر يوم عيد الأضحى، ولا يتمُّ الحج الا بالوقوف على جبل عرفات، ومن فاته هذا الوقوف فقد فاته الحج ويدلنا علي ذلك قوله تعالى “فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ،وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ”. وقوله عليه الصلاة والسلام: “الحج عرفة”.
ومن تجليات هذا اليوم ونفحاته أنه يوم المباهاة والعتق من النيران، حيث إنَّ الله يباهى بحجاج بيته الذين أتوا من كل فجٍّ عميق ملائكته وكأن الله يؤكّد لملائكته عدم صحة قولهم:” أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ”.
وذلك يوم أن جعل آدم- عليه السلام- خليفته فى الأرض ويقول لهم مباهياً إياهم: هؤلاء عبادى جاؤوا إلى ساحتى يسارعون إلي مغفرتى وجنَّتى، فاليوم عطائى لهم غزير وفضلى عليهم كبير. فعن جابر رضى الله عنه مرفوعاً “ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة، ينزل الله تعالى إلى سماء الدنيا، فيباهى بأهل الأرض أهل السماء، فيقول انظروا إلى عبادي، جاؤوني شُعثاً غُبراً ضاحين، جاؤوا من كل فج عميق، يرجون رحمتي، ولم يروا عقابي، فلم يُرَ يوماً أكثر عتقاً من النار، من يوم عرفة”.
وهذا يوم إكمال الدين وإتمام النعمة علي أمة الإسلام أتباع الحبيب محمد- صلى الله عليه وسلم- فقد روى البخارى بسنده عن عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- أن رجلاً من اليهود، قال له: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرءونها، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتّخذنا ذلك اليوم عيداً. قال: أى آية؟ قال: “اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا”. قال عمر: “قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذى أنزلت فيه على النبى- صلى الله على وسلم- وهو قائم بعرفة يوم الجمعة “.
ومن تجليات هذا اليوم ونفحاته أيضاً “أن صيامه يكفِّر السنة الماضية والآتية، لما أخرجه الإمام مسلم بسنده عن أبي قتادة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم عرفة؟ فقال: “أحتسب على الله ان يكفِّر السنّة الماضية والآتية” لما اخرجه الامام مسلم بسنده عن ابى قتادة قال وسنة قادمة مصداقاً لما ثبت في صحيح مسلم .
قال بعض أهل العلم: ليالى العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالى العشر الأوائل من ذى الحجة، لأن فيها ليلة القدر، وأيام العشر الأوائل من ذى الحجة أفضل من أيام العشر الأواخر من رمضان لأن فيها يوم عرفة .
أما ما يجب علينا في هذا اليوم أن نكثر من الدعاء، فقد روى الترمزى في سننه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال “خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيّون من قَبْلِى لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو علي كل شئ قدير”.
قال الباجى: قوله: أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، يعنى أكثر الذكر بركةً وأعظمه ثواباً وأقربه إجابة.
ومن هديه- صلى الله عليه وسلم- فى هذه الأيام المباركات الإكثار من ذكر الله ـ لما رواه الإمام أحمد في مسنده عن إبن عمر رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد”.
ويستحب أيضاً حتى نحظى بنفحات هذا اليوم أن نكثر من الأعمال الصالحة من صلاة ونفل وصدقة وذكر وصلة رحم وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر.