بقلم: أ . د / محمد عباس عبدالرحمن المغنى
أستاذ ورئيس قسم الدعوة والثقافة الإسلامية
بكلية أصول الدين القاهرة جامعة الأزهر
هكذا انتهى المؤتمر العالمي للحج الأكبر في صورة راقية ورائعة تعيد للأذهان صورة ذلك المؤتمر العالمي للحج الأكبر الذى بدأه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم بأمر الله ، أنه المؤتمر العالمي الذى خرج فيه رسولنا في العام العاشر من الهجرة بنحو مائة ألف من المسلمين ملبيين، ومهللين، وحامدين لله رب العالمين، وهو يسوق معه مائة من الهدى، إلى أن وقف بعرفات الله، وطاف بالبيت الحرام، ورمى الجمرات ، وبات بمنى، ونزل إلى المزدلفة وسعى بين الصفا والمروة، وهو يقول للناس (خذوا عنى مناسككم) والجميع يرقب ، ويقتدى برسول الله صلى الله عليه وسلم .
كان هذا هو المؤتمر العالمي الذى شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم مُعلماً ومودعاً ليتكرر هذا المؤتمر فى كل عام بدعوة من الله تعالى ؛ ليعيش المسلمون على ذكراه ، وها هي أيام الحج قد انقضت ، وها هم الحجيج قد قضوا الحج، وأدوا مناسكهم وقد انفض المؤتمر ، فماذا نتعلم من هذا المؤتمر العالمي؟ وما الدروس التي يمكن أن يجنيها المسلم؟ وما التوصيات التي يجب أن نتواصى بها، لنطبقها على أرض الواقع المعاصر؟
ماذا نستفيد من مؤتمر الحج العالمي السنوي بعد انقضاء موسمه؟
لقد علمنا الحج دروساً عظيمة، ولا يزال مؤتمره السنوي العالمي يغرس في نفوسنا معانى سامية ، ويرشدنا لغايات ومقاصد كبرى هي التي شُرع من أجلها الحج ، ومن أهمها:
- الاستسلام لأوامر الله ولو لم تظهر الحكمة للمسلم، طالما أن الله قضى وأمر فينبغي للمسلم أن يسمع ويطيع، ويسلم الأمر لله، نتعلم ذلك من نظرنتنا وتأملنا للحجيج وهم يطوفون بحجر ، ويرجمون حجراً بحجر ، ويقبلُون حجراً ، إنه مطلق التسليم ، فأمور الدين ينبغي للمسلم أن يُسلم لها سواء أعلم الحكمة منها أم لا ، وسواء أدركها العقل أم لا ، فإن قاعدة (أفعل ولا تفعل) هى واجب التكليف ولو لم تظهر الحكمة للمسلم، وهو من أهم الدروس التي يجب أن نأخذها من الحج، وينبغي أن يصاحبنا فى حياتنا المعاصرة التي مُلئت بالماديات والتحكمات الفلسفية غير المعقولة.
- ومن الغايات والدروس التى يجب على المسلمين أن يتعلموها من الحج الطاعة المطلقة لله ولرسوله والطاعة لأولى الأمر، ما دام أمرهم متوافقًا مع الأمر الإلهي، نتعلم ذلك من شعار الحج، الذى يملأ الفضاء أريجه، والأذان شجاه ،والوجود صداه ، فشعار الحجيج التلبية وهى: (لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالمُلْكَ، لاَ شَرِيكَ لَكَ) البخاري ، والتلبية ركن من أركان الحج، لا تنوب النية عنها كالتكبير في الصلاة، ، ومعنى هذا الشعار المتكرر في الحج (لبيك) أي إجابة لك بعد إجابة وقرباً منك وطاعة لك للتأكيد والتدريب ، فكأنه قال: أنا مقيم على طاعتك، واتجاهي وقصدي إليك، ومحبتي لك وإخلاصي لك؛ ليظل هذا الشعار مصاحباً للمسلمين فى حياتهم المعاصرة. وليكن شعار المسلمين لأوامر الله ورسوله (سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)) البقرة وليكن موسم الحج فرصة لتجديد العهد مع الله بنداء الخليل والحبيب لبيك اللهم لبيك.
- ومن الدروس المهمة والملامح العظيمة التي يجب على المسلمين أن يأخذوها من الحج إلى بيت الله الحرام بعد انقضاء موسمه ، وذهاب أيامه ، المداومة على ذكر الله تعالى ، وهو ما أشارت إليه الآية الكريمة (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) البقرة 200، والذكر يكون باللسان قولاً، وبالعقل فكراً، والجوارح عملاً، ويكون فى الصحة والمرض ، والسفر والحضر، واليسر والعسر، والقوة والضعف، والسكون والحركة ، والقيام والقعود وهو ما أوصى به رسولنا صلى الله عليه وسلم فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ شَرَائِعَ الإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ، فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ، قَالَ: «لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» رواه الترمذى،
فما أحوج مجتمعاتنا المعاصرة التى تموج بالماديات والمشاكل أن تعود لذكر الله قولا وعملا لتسود السعادة فى المجتمع والطمأنينة فى القلوب، والراحة للأفئدة ( الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الرعد.