يُشكِّك البعض في السيرة العطرة مدّعيًا تأخّر تدوينها، وروايتها زمنًا طويلًا روايةً شفهية متأثّرةً بما يَعرِض للبشر من نسيان وتغيير.
ومِن حقّ كلّ أحد أن يعرف كيف وصلت إلينا السيرة العطرة؛ وما جهود علماء المسلمين في هذا المجال، لأنه لا يوجد فيما بين أيدينا من تواريخ قديمة وحديثة حَدثٌ أهمّ منها، كيف لا وهي الحدث الذي غيَّر ولا يزال يُنتظر منه أن يُغيّر منحى الحياة البشرية تغييرًا كليًّا؟!
فمن حق المسلمين وغيرهم معرفة كيف وصلت إلينا السيرة، ولكن ليس من حق أحد أن ينقد علمًا هو ليس من أهله، وليس له من أدوات النقد العلمي ما يؤهّله لذلك، لا يحق لأولئك أن يتهجّموا على السيرة أو غيرها من العلوم شرعيةً كانت أو غير شرعية، وضعها المسلمون أو غيرهم، ما داموا بمعزل عن أصول القراءة العلمية وأدوات البحث العلمي، بل بمعزل عن نزاهة أهل العلم وإنصافهم.
والسيرة النبوية على وجه التحديد لا يصحُّ أن يُشكَّ فيها؛ لأن مَن لديه أدنى ثقافة بتاريخ العرب وأدبهم سيعرف مدى اهتمامهم بالتاريخ فيما كان يُسمّونه بـ«أيام العرب»، والمراد بها الأيام التي تضمّنت وقائع وأحداثًا عظيمة حرصوا على نقلِها وما حفَّ بها من أحوال خارجية ومشاعر نفسية تُبيّن أدقَّ تفاصيلِ سياقِها التاريخي؛ لأنها مَظهرُ مَجدِهِم وجَلَدِهم.
وقد خاطبهم القرآن بهذا المعنى الذي يعرفونه «للأيام»؛ أي: ما تضمنته من وقائع ونِعم وابتلاءات، فمن ذلك قوله سبحانه: {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ}؛ أي: هل ينتظر المشركون إِلَّا أيامَ عذابٍ كعذابِ المكذِّبين مِن قبلهم؟! ومنه قوله سبحانه: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ}؛ أي: قل للمؤمنين يصفحوا عن المشركين الذين لا يتوقّعون مجيء أيام ينتقم الله فيها من أعدائه ويُنعم على أوليائه، وأضيفت «الأيام» للاسم الكريم «الله» تعظيمًا لشأنها.
وقد ظلَّ هذا الحرص في الإسلام أيضًا، فقد دخل سيدنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بيته يومًا فوجد فيه جاريتين مع السيدة عائشة تغنّيان بأشعار يوم بُعاث [وبُعاث اسم موضع حصل عنده قتال عظيم بين الأوس والخزرج في الجاهلية]، فلم يَنهرهما صلى الله عليه وسلم، ولما دخل سيدنا أبو بكر ونهرهما قال له صلى الله عليه وسلم: دعهما. وهذا يدل على شغف العرب بنقل التاريخ، وإباحته صلى الله عليه وسلم لذلك، ويدل على هذا قول سيدنا عليَّ بن الحسين رضي الله عنهما: كُنّا نُعلَّم مغازي النبيِّ صلى الله عليه وسلم وسراياه كما نُعلَّمُ السورةَ مِن القرآنِ. ويقول إسماعيل بن محمد بن سعد: كان أبي يُعلّمنا مغازي رسول الله ويَعدُّها علينا، وسراياه، ويقول: يا بُني هذه مآثر آبائكم فلا تُضيّعوا ذِكرها.
وهذا يدل على مدى اهتمام جيل الصحابة ومَن بعدهم بنقلِ هذه المغازي، وأنها كانت تُعلّمُ في الكتاتيب -التي أُنشئت في العهد الأول- كالقرآن الكريم.
وليس معنى كلمة (المغازي) اقتصار الرواية على الحروب فقط، بل هي تشمل وقائع السيرة النبوية كلها، وإنما يُعبّر بالمغازي لكونها أبرز الوقائع، والدليل على هذا أن التأليف في سيرة سيدنا رسول الله بدأ بهذا العنوان (المغازي) مع تضمّنه الكلام على مولده وبعثته وانتقاله، بل يمتدُّ الحديث في هذه المؤلّفات لفترة ما قبل المولد وما بعد الانتقال.
وقد ظل هذا التاريخ علمًا يُدرَّس جيلًا فجيلًا حتى إن الإمام الشافعي أقام على قراءة العربية وأيام الناس عشرين سنةً، وقال: ما أردتُ بهذا إِلَّا الاستعانةَ على الفقه.
وقد يظنّ البعض أنه مع هذا الاهتمام ظلّت السيرة تُروى رواية شفوية، وهذا ظنٌّ خاطئ، فالسيرة كُتبت في عهد الصحابة رضي الله عنهم، يقول سيدنا عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: كنت ألزم الأكابر من أصحاب رسول الله من المهاجرين والأنصار فأسألهم عن مغازي رسول الله. وكان يأتي الصحابي الجليل أبو رافعٍ فيقول: ما صنع رسول الله يوم كذا؟ ما صنع رسول الله يوم كذا؟ ومعه ألواح يكتب فيها. ولم يكن هذا صنيع ابن عباس وحده، فها هو سيدنا أنس رضي الله عنه يقول: كُنّا لا نَعدُّ عِلمَ من لم يكتب عِلمَه علمًا. فعدم كتابة العلم كان أمرًا يستنكره الصحابة، وقد رُوي عن عدد منهم نُصحُهم لمن بعدَهم: «قيّدُوا العلمَ بالكتاب»، فهل يصح الادعاء بتأخر تدوين السيرة؟!