جمع بين الأصول العلمية الإسلامية.. وتتلمذ على يديه أئمة الحرم المكي
أول عالم أزهري له أسانيد في علم القراءات.. وحقق ما لم يحققه العلماء
مؤلفاته العلمية التي تعد بالمئات تدرس في جامعات ومعاهد الدول العربية والإسلامية
إعداد: أحمد شعبان
تمر هذه الأيام وتحديداً في 17 يونيو الذكرى الثانية لوفاة العالم الراسخ الأصولي شيخ القراءات وأصول الفقه في العالم الإسلامي كله، الذي جمع بين الأصول العلمية الإسلامية، الأستاذ الدكتور شعبان محمد إسماعيل، أستاذ أصول الفقه وعلم القراءات بجامعة الأزهر، العالم المتفرد الذي جمع بين أصعب علمين في أصول الإسلام، وصاحب التاريخ العظيم في الدفاع عن الإسلام والسنة النبوية المشرفة.
ترك فضيلة الإمام الشيخ شعبان عالمنا بجسده، ولكن مازالت مؤلفاته العلمية التي تعد بالمئات تدرس في جميع جامعات ومعاهد الدول العربية والإسلامية، ورحل شيخ الأصول والقراءات مخلفاً وراءه تراثاً أصولياً وإقرائياً مستنبطاً بفهم ثاقب وعقل كبير لم يسبق إليه، وتلاميذ في ربوع العالم الإسلامي.
“عقيدتي” شاركت ذكرى وفاة عالمنا الراحل وفاءً وتقديراً من الجريدة التي شارك فيها فضيلة الشيخ شعبان منذ بداية إصدارها بكتابة المقالات والمشاركة في ندواتها الدينية، وظل يكتب فيها حتى قبل وفاته بيوم واحد وكان آخر مقال كتبه بعنوان “الوقف الشرعي أهميته وآثاره الاجتماعية”.
استعرضنا في هذا التقرير ذكريات من عاصروه من زملائه وتلاميذه الذين عايشوه وتعلموا وقرأوا عليه، فخرجت هذه الكلمات العطرة التي تفوح منها رائحة الحب والمودة والإخلاص والوفاء لشيخهم العالم الجليل عليه رحمات الله تعالى.
عالم أصول علوم الإسلام
من توفيق الله عز وجل عليّ في بواكير التحاقي بالعمل في كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنين بجامعة الأزهر بالقاهرة، أنني تعرفت على صاحب الفضل والفضيلة الأستاذ الدكتور شعبان محمد إسماعيل، رحمه الله تعالى، وكان يشغل وقتها رئيساً لقسم الشريعة الإسلامية، وكنت في هذا الوقت في وظيفة معيد بالفقه المقارن.
بهرني فضيلته لأنني وجدت عاماً متفرداً، جمع ما بين الدراسات القرآنية، وأيضاً تخصصه الدقيق في علم أصول الفقه، فقلت “سبحان الله” الله جمع له في علوم الإسلام كلها الدراسات القرآنية وهي الأصل الأصيل لعلوم الإسلام، ثم علم أصول الفقه وهو الأصل في علوم الشريعة الإسلامية.
وبالمخالطة التي أشرف بها تبين لي أن فضيلة الشيخ شعبان أيضاً من أصحاب المدرسة الوجدانية التصوف الحقيقي لا المبتدع، فأخبرته بأن الله جمع له ثلاثة أشياء يتفرد بها، جمع له بين علمي الشريعة يتمثل في الدراسات القرآنية وأصول الفقه، وبين علم الحقيقة حيث هو من أكابر المحبين لآل بيت النبي محمد صلى الله عليه وسلم ولأولياء الله الصالحين.
عرف الشيخ شعبان بالتواضع الجم، وحل المشكلات بالحكمة، وكان لنا الملاذ، فحينما كانت تعترضنا مشاكل إدارية أو غيرها، فكنا نفزع إليه، فكان يحلها وكان لنا بمثابة الأمن والأمان والسلم والسلام.
حصلت في سن مبكرة على بعض مؤلفاته العلمية، في دفاعه عن السنة النبوية، وفي حديثه الشيق الجزل الراسخ عن الأصلين الكتاب والسنة.
نفع الله تعالى به آلاف مؤلفة من الباحثين في مصر وفي أم القرى في مبدأ نزول الإسلام منذ بواكير اقرأ، فأراد الله تعالى له أن يعلم البلد التي نزل فيها الإسلام، ألا وهي مكة المكرمة، ويضع بصمات الأزهر الشريف في هذا الموطن، لتمتد الجسور العلمية ما بين مآذن الحرم المكي الشريف، وما بين مآذن الأزهر الشريف.
شغل فضيلته في أم القرى في المملكة العربية السعودية مناصب علمية رفيعة، وكان محل ثقة متناهية من علماء المملكة، وانتهى به المطاف بعد سنوات من الاغتراب أن عاد إلى بيته الأصيل إلى جامعة الأزهر الشريف.
انتقل إلى جوار الله عز وجل راضياً مرضياً بعد أن خدم دينه وأمته، وخدم البحث العلمي، في مصر وفي خارجها، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم، “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به”، وقد نال من هذه الحظوظ، أولاده نحسبهم على خير، والباحثين الذين رباهم وعلمهم وخرجهم، والكتب العلمية التي تزين مكتبات الأزهر الشريف وغيره، وكان يجبر بخاطر جميع العمال في الجامعة وبنفسه، تقبله الله في الصالحين.
أ.د. أحمد محمود كريمة
أستاذ متفرغ الفقه المقارن
كلية الدراسات الإسلامية والعربية بنين القاهرة
تتلمذ على يديه العشرات من أئمة الحرم المكي
عندما فكرت أن أكتب عن رجل بحجم وقامة فضيلة الأستاذ الدكتور شعبان محمد إسماعيل، رحمه الله تعالى رحمة واسعة، احترت كثيراً فقد زاملته عدة سنوات في جامعة أم القرى بمكة المكرمة والتي عمل بها سنوات عديدة، حيث بدأ عمله فيها بتدريس علم أصول الفقه، ثم نُقل إلى قسم القراءات بكلية الدعوة وأصول الدين التي فُتْح فيها على يديه تدريس مرحلة الماجستير والدكتوراه في القراءات.
وأُسند إليه تدريس القراءات العشر الصغرى والكبرى للطالبات عبر شاشات التليفزيون، وتخرج على يديه العشرات بل والمئات ومنح إجازات في القراءات، وتتلمذ عليه العشرات من مشاهير القراء من أئمة الحرم المكي الشريف أذكر منهم إمام الحرم الشيخ خالد الغامدي، وكذلك الشيخ فيصل الزهراني.
وخلال فترة حياته بمكة المكرمة وعلى مدى عشرين سنة، فتح بيته لطلاب العلم، وقام بالتدريس أيضا بالحرم المكي الشريف والعديد من المساجد بمكة المكرمة، ومنح المئات من الإجازات القرآنية بالقراءات العشر الصغرى والكبرى بالسند المتصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعندما كنت أتحدث إليه أرى أمامي رجلاً عالماً متواضعاً جليلاً يحمل في قلبه نوراً هو نور القرآن الكريم، وأجرى الله على لسانه علوم القرآن فأهل القرآن هم أهل الله وخاصته، والعمل في خدمة كتاب الله هو اصطفاء من الله تعالى مصداقاً لقوله تبارك وتعالى: “ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا”.
لذلك فإن قصة حياة هذا الرجل العالم الفقيه قصة نستخلص منها الدروس لمن يريد أن يعرف كيف تكون حياة رجل من دولة القرآن الكريم، حيث تعود إلى ما قبل أربعة وثمانين عاما، فقد ولد الشيخ بقرية الخطارة بمحافظة الشرقية بجمهورية مصر العربية في الثامن والعشرين من شهر أغسطس عام ألف وتسعمائة وتسعة وثلاثون ميلادية، وكان الإبن البكري لأبيه وكان رجلاً مزارعاً بسيطاً، وكعهد الناس في هذا الزمن في قرى الريف أن الأبن البكر يعمل مع أبيه في الزراعة ويكون السند والعون له.
وفعلا عمل الشيخ لقرابة عشر سنوات مع أبيه إلا أنه قد حان موعده مع الاصطفاء الإلهي لخدمة كتاب الله، فأصيب بمرض خطير لم يستطع معه العمل مع والده حتى شفاه الله، ولكن كانت نصيحة الأطباء ألا يعود للعمل بالزراعة مرة أخرى لخطورة ذلك على حياته، فأرسله والده إلى خياط (ترزي) ليتعلم المهنة ويعمل معه، لكنه بعد أربعة أشهر لم يفلح.
فأشارت عليه الأسرة أن يرسله إلى إحدى كتاتيب القرية ليتعلم القراءة والكتابة والقرآن فحفظ القرآن الكريم كاملاً في أربع سنوات على يدي الشيخ عبد المنعم غانم رحمه الله، ولكن دون تجويد فأرسله والده رحمه الله إلى كُتاب بقرية مجاورة ليتعلم التجويد على يدي الشيخ أحمد سلامة رحمه الله في أقل من سنة، ثم انتقل إلى مدينة القاهرة حيث معهد القراءات الذي كانت فيه مدة الدراسة ثمان سنوات كاملة ليتخرج الشيخ بعدها يعمل في الأزهر الشريف، ويصبح عضواً بلجنة مراجعة القرآن الكريم وتصحيحه، ثم عضواً بلجنة اختبار القراء وتعاون أيضا مع إذاعة القرآن الكريم بالقاهرة لعشرات السنين مقدماً لبرنامج بعنوان “بين السائل والفقيه”، وفي هذه الأثناء حصل الشيخ على درجتي الماجستير والدكتوراه في علم أصول الفقه من كلية الشريعة والقانون بالأزهر الشريف، ثم عمل بالتدريس لنفس هذه المادة بذات الكلية وأُعير للعمل بجامعة قطر وجامعة الملك عبدالعزيز بجدة بالمملكة العربية السعودية، وجامعة أم درمان بالسودان ثم جامعة أم القرى بمكة المكرمة.
وكُرم الدكتور شعبان من خادم الحرمين الشريفين، الملك عبدالله بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى، عن بحثه الذي قدمه بعنوان “الاجتهاد الجماعي وأهميته في ضبط الفتوى”، بمؤتمر الفتوى وضوابطها الذي نظمته رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة.
وظل الشيخ شعبان يعمل في خدمة كتاب الله حتى حانت لحظة عودة الروح إلى خالقها في السابع عشر من شهر يونيو عام ألفين واثنين وعشرين عن عمر يناهز الرابعة والثمانين، رحم الله تعالى العالم القرآني الأستاذ الدكتور شعبان محمد إسماعيل، وبارك الله في ذريته ونفع بهم.
الدكتور أيمن محمد عبدالكريم
متخصص في السيرة النبوية
بجامعة أم القرى سابقاً
أنشأ داراً لتحفيظ القرآن بقريته “الخطارة”
منذ نعومة أظافري رأيت فضيلة الأستاذ الدكتور شعبان محمد إسماعيل، وتربطني به صلة قرابة من جهة الأم، ولكن الصلة الأوثق والأكبر بيننا كانت حب القرآن الكريم وحب الخير لجميع الخلق، فتمنيت أن أسلك طريق القرآن الكريم والعلوم الشرعية وكان هو مثلى الأعلى، وكنت وقتها بالمرحلة الإعدادية العامة ثم التحقت بالثانوية الأزهرية ومنها لكلية أصول الدين، ومن هنا زادت الصلة بيننا.
وكان فضيلة الشيخ شعبان معاراً تارة إلى المدينة المنورة، وتارة إلى جامعة قطر وبعدها جامعة أم القرى بمكة المكرمة، مختتما حياته العلمية بها وصرت بعدها وكأني وزير لفضيلته في بلدتنا الخطارة مركز فاقوس شرقية.
وفى يوم ما أمرني فضيلته بإنشاء دار لتحفيظ القرآن الكريم، وكان الداعم الأكبر ماديا لبنائها، وبعد ذلك قام بدعهما ماديا ومساعدة من يقوم بالتحفيظ حتى يكون مجانا حبا في القرآن الكريم من جهة، وتيسيرا وترغيبا لحفظة القرآن الكريم من جهة أخرى.
والحمد لله أصبحت لهذه الدار ثمار واضحة، وتجرى المسابقة الثانوية في ختام شهر رمضان الكريم من كل عام بين حفظة القرآن الكريم، والتي تحمل اسم الدكتور شعبان عرفانا لجهوده في خدمة القرآن الكريم وغيره من العلوم الشرعية، وتخليدا لذكراه.
ولم تقتصر جهوده الواضحة في خدمة القران الكريم فحسب، ولكن له جهود عظيمة في المعاملات الإنسانية، حيث كان داعماً لكل محتاج للمساعدة المادية سواء من الأهل والأقارب أو من أهل القرية، أو المساعدة في المشروعات العامة كبناء المساجد وغيرها.
فهو مثل أعلى للعالم العامل المخلص الذي أفنى حياته في خدمة القرآن الكريم وعلوم الشريعة، وأنفق ماله على الفقراء والمحتاجين، فترك تراثاً ضخماً من العلم والخلق وغرس المحبة في قلب كل من يعرفه أو يسمع عنه، رحمه الله رحمه واسعة وأسكنه الفردوس الأعلى جزاء ما قدم خدمة للإسلام والمسلمين وخدمة للقرآن والسنة، فجزاه الله خيراً.
الشيخ عبدالله عبدالسميع الصباغ
من علماء وزارة الأوقاف
شمس الأصول في عصرنا وقمر الفقه بدهرنا وشيخ القراءات بزماننا
من الذي يعرف الأزهر ورجاله، وأصول الفقه وأبطاله، ويعرف علماء قرننا وفحوله، وعلم الفقه ورواد نهضته، وعلم القراءات وسادة سدنته، ثم تراه لا يعرف العلامة الفارقة في تاريخ علماء الشريعة الإسلامية وهو الأستاذ الدكتور شعبان محمد إسماعيل تاج الأزهر ودرته، الذي اعتلى أعلى مكانته، ووصل ذروته، وبلغ قمته.
هل الشمس إذا توسطت السماء في يوم صحو بحاجة إلى من ينبه على مكانتها؟، هل القمر في ليلة اكتماله والسماء صافية بحاجه إلى من يشيد بعلوه وسنائه؟
إنه شمس الأصول في عصرنا، وقمر الفقه في دهرنا، وشيخ القراءات في زماننا، وأرض القواعد الفقهية التي تقلنا، وسماء العلم التي تظلنا.
تقوم الممالك وتنتهي، وترفع العروش وتسقط، وتزدهر الدول وتندرس، فكم من ممالك قامت ثم اندرست فلا أثر ولا عين، لكن هذا الجهبذ محرر جمود العقول، وأعجوبة الأصول، سيبقى الحبل الموصول، بيننا وبين الله والرسول- صلى الله عليه وسلم- وسيبقى نهر العلم المجدول.
سيبقى-بإذن الله- في ذاكرة الزمان، وقلب الدهر، وبقية العمر، قصة فريدة محفوظة لأجيال، ومحفورة في قلوب الشباب والشيبة والنساء والرجال، وكل من طلب العلم وصال وجال، واجتاز المفاوز وأكثر الترحال، عله يعثر على خطى شيخنا المفضال، ويسير على دربه في خدمة علوم الدين على امتداد الأمصار وتعاقب الأجيال.
قد فارقنا جسمه، وبقيت روحه، تحوم في سماء العلم بإذن ربه ومولاه، وسيبقى اسمه ينير صباح كل عالم وممساه، تردده الألسنة وتترنم به الشفاه.
عاش الأستاذ الدكتور شعبان محمد إسماعيل بين أهله ورفاقه وطلابه زاهداً في دنيا الناس، حيث لا انشغال بها ولا اهتمام ولا اكتراث، لا يشيد البيوت ولا يهتم بالأثاث، ولا يغالب على حطام الدنيا ولا يحارب من أجل الميراث، لكنه ترك لنا ميراثا علميا ذاخرا فأنعم به من أساس وميراث.
فهو ابن محافظة الشرقية صاحبة سمة الكرم والرجولة وسلامة القلوب، وربيب القرية الريفية الذى رعى دوابها في صغره بين كل الكهوف والدروب، وظل يساعد والده ويكافح وينافح حتى أثخنه المرض على صغر سنه وأثقلته الأحداث والخطوب، ورغب أهله في تعليمه الحياكة (الخياطة) فلم يشأ الله أن يظل بقية عمره في تلك المهنة التي كانت ستغير مسار حياته وتأخذه في دروب غير الدروب، ومع أن الحياكة مهنة تستر أجساد الناس وترقع الخروق والثقوب، إلا أن الله نقل شيخنا إلى الريادة في علوم ترشد العقول وتهدى القلوب، فذهب إمامنا إلى القاهرة فتطبب وتعلم والتحق بالأزهر وسكن أروقته بين الطلاب من كل البلاد والشعوب، وتدرج في مراحل التعليم حتى نبغ وساد وأجاد وقاد وأصبح طبيب أصول الفقه الذكي الألمعي المحبوب، وشيخ الشريعة الذي ينير لنا الطريق في مدلهمات الخطوب، ورائد القراءات الذي إذا طالعت له أي كتاب فتجدك قريب العهد من فهم مراده ولست ببعيد ولا محجوب.
شيخ ألان الله له عريكة الفقه، ويسر له شرح أمهات كتب الأصول صعبة الفهم، فكان حبل صلة بين تراث الأصوليين المستغلق الفهم، وبين عقول المعاصرين حيث قلة البضاعة وصعوبة تذليل العلم.
وخير دليل ينادي بأعلى صوته فوق قمم جبال العلم، ويؤذن بين العلماء ليبن فضل هذا الأصولي البحر الخضم، لكي يبين للناس كلهم صعوبة المسلك الذي اتخذه الأستاذ الدكتور شعبان محمد إسماعيل لتذليل الفهم؛ هو شروحه لأمهات كتب الأصول مستغلقة الفهم، صعبة المراس، بل ربما غير سهلة القراءة على ألسنة الناس، من أمثال (نهاية السول) و(معراج المنهاج) وغيرها الكثير والكثير ممن يكثر غموضه ويعتريه الالتباس.
وكأني به الآن وهو يشرح لنا- نحن طلاب كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنين بالقاهرة- كتاب معراج المنهاج فيشرح حرفا حرفا، ويقف عند كل كلمة يذلل الصعاب، وكأنه يحطم الصخور ويسوي الهضاب، ويبذل غاية وسعه في إفهام كل الطلاب، وكأنه النهر العباب، الذي يرتوى منه الناس جميعا سواء من المخالفين أو الأصحاب والأحباب.
ويعلم الله أنني أقف الآن حائرا ماذا أقول في حق شيخنا، وكيف أحكى للناس قصة إمامنا هل أتكلم عن عراقة نسبه وطهره، أم عن سعة علمه وفهمه، أم أتكلم عن ذكائه وألمعيته، أم عن تأصيله للمسائل، أم أتكلم عن همته وغيرته، أم أتكلم عن سلامة مشربه، أم عن سنيته، أم عن زهده، أم عن قوة استدلالاته، وتنوع أساليبه، وتعدد معارفه، وطول نفسه، أم أتكلم عن جلده في البحث، أم صبره على التحصيل، أم عن دأبه في نشر العلم، أم أتكلم عنه مربيا ومشرعا، أم قارئا، أم مفسرا، أم أصوليا، أم محدثا، أم عن جهاده لأعداء الشريعة وخصوم الملة، أم عن صموده أمام المعوقات، أم عن تعظيمه لربه…أم عن…
إنه المسافر عبر تاريخ العلماء من غابر تاريخهم إلى نهاية تجديدهم واجتهادهم الثاقب عبر التاريخ المديد، إذا تكلم في الأصول فهو التأسيس والتقعيد، وإذا تكلم في الفقه فعهدك بأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ليس ببعيد، وإذا تكلم في القراءات فكأنه يغرف من بحر القراء العشرة ومن نهر الشاطبية وجداول الطيبة ومنابع الدرة بكل سهولة وبمنأى عن الصعوبة والتعقيد، وإذا تكلم في علوم العربية فكأنك تعقد لواء الريادة لأنجب طلاب مدرسة الكوفة والبصرة في غابر تاريخهم التليد، وإذا تكلم في تجديد أصول الفقه فهو صاحب البصيرة الفريد.
عاش شيخنا لا يطلب وزارة، ولا إمارة، ولا تجارة، لكن بقي معنا ومع الأجيال من بعده وبعدنا حيا في ضمائر العلماء، أعجوبة في موازين الفقهاء، وجهبذا بين القراء.
سيبقى حاضرا في المنتديات العلمية، ومجامع الفقه، وصروح المعرفة، وأروقة الجامعات، وأندية الثقافة، ماثلا في قاعات الدروس، ومحمولا فوق الرؤوس.
أحسبه كذلك ولا أزكيه على الله.
بقلم دكتور عطية محمود رواش
أستاذ الحديث وعلومه بجامعة الأزهر
أحد طلاب وخدام الأستاذ الدكتور شعبان
شيخ القُرّاء.. وعلامة الأصول
إنه فضيلة العلامة الأستاذ الدكتور شعبان محمد إسماعيل، وقد أكرمني الله عزّ وجل بالتّلمذة على يديه في كلية الدراسات الإسلامية والعربية حيث درست على فضيلته كتاب منهاج الوصول إلى علم الأصول للقاضي البيضاوي، في علم أصول الفقه، وبطريقته البديعة في الشرح والتحليل كان يستطيع أن يفهّم أعمدة المدرج الذي كان يدرس لنا فيه، فكنّا لا نخرج من المحاضرة إلا وقد حفظنا الدرس.
في الحقيقة وجدت نفسي أنجذب نحو فضيلته لأنعم وأغرف من علمه الفيَّاض، وكنت أمني نفسي بهذا اللقاء الذي أقف أمام مُحيّاه الكريم، والحمد لله يسر الله ليّ اللقاء.
وعرفت أن فضيلته من أئمة القراءات، فأحببت أن أنال شرف القراءة على يديه الكريمتين، وكنت أن أتبتّل إلى الله في سجودي أن يرزقني بمن أقرأ عليه القرآن الكريم كاملًا، وأخذت أتضرّع إلى الله وألح في طلبي في وقت السحر، وما أن عرضت على أستاذنا فضيلة الدكتور شعبان إسماعيل أن أقرأ عليه ختمة إلا وافق على الفور.
حقيقة كاد قلبي أن يقف من شدة الفرح والسرور أن أنال شرف القراءة على جبل من جبال العلم، ورمز من رموز القُرَّاء الذين يشار إليهم بالبنان، واستقبلني الشيخ في بيته استقبال الأب لابنه، وأكرمني الله عزّ وجلّ بقراءة ختمة كاملة بين يديه.
وكنت أثناء القراءة يصوّب لي الشيخ ما أخطأ فيه، وإن كانت الآية تحتاج إلى تفسير معنى ذكر لي تفسيرها، وإن كانت تحتاج إلى بيان وتوضيح لغوي انساب العلم من شفتيه الكريمتين، فعلمت أني أمام عالم حاز الفنون وجمع العلوم، وفي نهاية الختمة أعطاني الشيخ سنده المتّصل برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن المواقف الإنسانية التي لا تمحى من ذاكرتي مع الشيخ: كان رحمه الله يزور أقاربه في بلدة الخطارة بمحافظة الشرقية، وبما أني من قرية الطويلة التي تجاور الخطارة، فكان الشيخ رحمه الله قبل أن يسافر يقول لي: يا شيخ علي أنا مسافر في الوقت الفلاني هل تحب أن أهوّن عليك مشاق السفر وتصحبني، فكنت أسعد سعادة غامرة بهذا اللقاء الذي لا يخلو من فوائد، علمًا أن طريق الطويلة يغاير طريق الخطارة، ولكن الشيخ كان يعاملني كواحد من أبنائه، وأذكر من أكرم أخلاقه وتواضعه الجمّ أنه تعرف على عائلتي، وكان أبي رحمه الله يحبُّه حبًّا جمًّا.
في الحقيقة لقد أثر في الشيخ تأثيرًا كبيرًا في حياتي العلمية والعملية، فوجدت فيه العالم الذي أنهل من علمه، والشيخ المربّي، والأب الحنون.
وقد فقدت الأمة الإسلامية والعربية علمًا من أعلامها الكبار بوفاة فضيلته، ولكن عزاؤنا أنها سنة الحياة، وما زالت كتب فضيلته تأليفًا وتحقيقًا ينتفع بها طلاب العلم والمعرفة، فجزاه الله عنا وعن طلبة العلم في مشارق الأرض ومغاربها.
وأنا على العهد والوعد.. أدعو لفضيلته، فكلما انتهيت من ختمة للقرآن وهبت ثوابها لفضيلته، أنزل الله على مثواه شآبيب الرحمة والرّضا، وجمعنا بحضرته في الفردوس الأعلى من الجنّة.
الدكتور علي محفوظ
من تلاميذ الشيخ