بداية لابد أن نعى ونفهم النصوص الشرعية التى تحثنا على الوحدة ونبذ الفرقة مثل قوله تعالى: “وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا”، وقول النبى صلى الله عليه وسلم: “ترى المؤمنين: فى تراحمهم، وتوادهم، وتعاطفهم ،كمثل الجسد، إذا اشتكى عضو، تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى”، يتبين لنا أن الإسلام يدعو إلى الوحدة والتآخى بين المسلمين رغم اختلاف مذاهبهم وآرائهم الفقهية.
فى عالمنا الإسلامى المعاصر تتعدد المذاهب الفقهية وتتنوع الآراء حول النصوص الشرعية، يُطرح تساؤل مهم: كيف يمكن للمسلمين تجاوز هذه الاختلافات وتحقيق الوحدة والتفاهم؟ قال الإمام الشافعي: “رأيىّ صواب يحتمل الخطأ، ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب”. هذه العبارة تلهمنا لرؤية اختلافاتنا كمصدر للثراء الفكرى والتنوع الثقافي، ويعد فقه الاختلاف أداة مهمة لفهم هذا التنوع وإدارته بحكمة، مما يجعله وسيلة فعّالة لجمع الآراء المختلفة، وتوحيد صفوف الأمّة.
نستعرض مفهوم فقه الاختلاف وأهميته فى ربط الفروع بالأصول، وتخفيف الحرج، وتعزيز الاحترام بين العلماء، ودوره المحورى فى تحقيق التماسك الاجتماعي، فقه الاختلاف ليس مجرد علم نظري، بل هو نهج عملى يمكن من خلاله تحقيق التفاهم والتعاون بين المسلمين، مما يسهم فى بناء مجتمع متماسك ومزدهر.
يُعرف فقه الاختلاف بالمعرفة والفهم العميق لأسباب وتفاصيل الاختلافات الفقهية فى الإسلام، ويهدف هذا الفقه إلى تقريب المسافات بين المختلفين فى الفروع الفقهية، والنصوص ذات الدلالة الظنية، بالإضافة إلى معالجة المسائل المستحدَثَة التى لا يوجد لها نص صريح.
من خلال هذه الفلسفة الشاملة، تبرز العديد من المزايا التى تسهم فى تعزيز الوحدة والتماسك بين المسلمين لأن علم الاختلاف يساعد الفقيه فى ربط الفروع بأصولها وأدلتها، مما يجعله قادراً على مواكبة التطورات وتوجيهها بما يتوافق مع مقاصد الشريعة الإسلامية، كما يسهم الاختلاف فى تخفيف الحرج ودفع المشقة عن المسلمين، إذ قد تتطلب ظروف الحياة أحياناً الأخذ بالمذهب الأسهل، وهذا يتماشى مع قول الله تعالى: “يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ”.
من خلال دراسة علم الاختلاف، يتعلم الدارس الدقة وعدم التسرع فى إصدار الأحكام، أو رد قول المخالف، مما يعزز من قدرته على الفتوى ونقض الأحكام القضائية بشكل مدروس، كما يوفر علم الاختلاف لصاحب كل واقعة حلولاً متعددة تناسب وضعه الخاص، مما يعكس يسر الدين الإسلامى ومرونته فى التعامل مع واقع حياة الناس.
يساعد هذا العلم الطالب على معرفة أسباب الاختلاف وكيفية نشوئها، مما يعزز من احترامه لآراء أصحاب المذاهب الفقهية، وتقدير جهودهم فى إثراء الفقه الإسلامى عبر العصور.
الاختلاف الفقهى دليل على غنى الشريعة الإسلامية، حيث يقدم كل مذهب عدداً هائلاً من الفروع التى تشكل مرجعاً للعلماء المسلمين ومتنَفَّساً لأفراد الأمة، ويدرك الطالب من خلال هذا العلم قيمة الاختلافات الفقهية ويقدرها، ويستطيع تمييز الاختلاف الفقهى المعتبر من غير المعتبر، مما يساعده على الأخذ بالأقوال الصحيحة وتجنب الشاذة منها، كما يسهم الاختلاف الفقهى فى توسيع وجهات النظر وإثراء الفكر لأن نتائج الاستنباط الشرعى تأتى رحمة بالأمة وتوسعة عليها.
ختاماً: إن فقه الاختلاف منارة تُضيء طريق التفاهم والوحدة، حيث يمكّننا من تجاوز الفروقات والعيش بتناغم واحترام متبادل فى عصر تتعدد فيه الآراء وتتباين وجهات النظر، نحن بأمسّ الحاجة إلى إحياء هذا الفقه وتطبيقه فى حياتنا اليومية، إذ يمكن أن يكون حجر الأساس لبناء مجتمع متماسك وقوى حيث قال تعالى: “فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ”، ويحثنا النبى الوحدة قائلاً: “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”.
هذه النصوص تذكّرنا بأهمية التسامح والصفح، وهى قيم جوهرية لفهم الاختلافات الفقهية والتعامل معها بحكمة. كما قال الإمام مالك:” كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا المقام”، مشيراً إلى روضة النبي.
هذا الاقتباس يلهمنا لرؤية اختلافاتنا كمصدر للثراء الفكرى والتنوع الثقافي، ويدعونا لاحترام وجهات النظر المختلفة والتعلم منها.
فلنتخذ من فقه الاختلاف منارة نهتدى بها، ولنكن على يقين بأن الاحترام المتبادل وفهم الآخرين هو السبيل لتحقيق السلام والوحدة، دعونا نعمل معاً على تعزيز هذه القيم النبيلة، متذكرين دائماً أن فى تنوعنا تكمن قوتنا، وفى تفاهمنا تتحقق وحدتنا وازدهارنا.
دعونا نكن جميعاً دعاة للتفاهم والحوار، ولنسهم فى نشر هذا الفقه بين أفراد مجتمعنا، فهو المفتاح لتجاوز الأزمات والفتن، ومصدر غنى للشريعة الإسلامية.