بقلم الدكتور طلعت عبدالله أبو حلوة
أستاذ البلاغة والنقد ووكيل كلية
الدراسات الإسلامية والعربية للبنين بدسوق
جامعة الأزهر
إن من أكبر وأهم عوامل قوتنا اتحادنا، فبالاتحاد تنال الأمم قوتها ومجدها، وتصل إلى مبتغاها، وتعيش آمنة مطمئنة، مرهوبة الجانب، مهيبة القوى، عزيزة الحِمَى، وإن من أكبر المصائب التي ابْتُلِينا بها اليوم، وفَتَكَتْ في سواعد قُوانا، وأطاحت برايات مجدنا وعزنا، التفرق والاختلاف.
وإن تنمية الوعي بأهمية الاتحاد لهي السبيل الأساسي والعامل الرئيسي للتغلب على الواقع المعيش المؤلم الذي أوجده التفرق والتشرذم والتنازع والاختلاف المشئوم الذي نقلنا من القوة إلى الضعف، ومن العزة إلى الهوان، ومن الأُخُوّة إلى العداوة، وَوَلَّدَ بين بعضنا بُؤَرًا بُرْكانيّة من الكراهية والشحناء والبغضاء، وقد أمرنا الله -سبحانه وتعالى- بالاتحاد والاعتصام فقال: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ آل عمران: (103)، ونهانا عن التنازع والتفرق والاختلاف تجنبًا للفشل وذهاب الريح فقال: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ الأنفال: (46).
ومن خصائص هذه الأمة أنها أمة واحدة، ونحن اليوم في حاجة ماسّة وضرورة مُلِحّة إلى الرجوع إلى الوَحدة؛ لأن واقعنا يشهد شهادة لا ريب فيها أننا في غفلة تامة عن أهمية الوحدة، وتطبيقها، والسعي إليها، والأخذ بها، فالفُرْقة هَلَكة، والجماعة نجاة، ويد الله مع الجماعة، وإنما يأكل الذئب من الشاة القاصية، ومن شَذَّ شَذَّ في النار، وقد حَثَّنا النبي -ﷺ- على الترابط والتماسك والاجتماع فقال: “المؤمن لِلْمؤْمن كالبُنْيان يَشُدُّ بَعْضُه بَعْضا”، وقال: “مَثَلُ المُؤْمِنِينَ في تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمِهِمْ وتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الجَسَدِ إذا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى له سَائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والحُمَّى”؛ ولذا أمرت الشريعة الإسلامية بإفشاء السلام الذي يدعو إلى المحبة، وحَثَّتْ على صلاة الجماعة التي تجمع المسلمين في مساجدهم، وأداء فريضة الحج التي تجمعهم في أداء مناسكهم، بل إن أول ما قام به النبي -ﷺ- عند وصوله إلى المدينة هو التآخي بين المهاجرين والأنصار، فحثهم في ذلك على الأخلاق الفاضلة، وأهمية مفهوم الترابط والتعاون والشعور بالآخر.
وإن العقلاء من كل أمة قد اتفقوا على صَوابيّة أن الوحدة هي سبيل قوتها، وطريق نصرها، وسبب عزها، وعلة مجدها، وإن التاريخ ليشهد أن من أهم أسباب هزيمة الدول وسقوطها اختلاف كلمتها، وتفريق صفها، وخير شاهد وبرهان على صحة ذلك ما تحقق للنبي -ﷺ- وأصحابه من نصر في غزوة بدر -رغم قلة عَدَدهم وضعف عُدَّتهم- بسبب اتحادهم، وما لحق بهم من هزيمة في غزوة أحد بسبب مخالفة الرماة لأمر قائدهم ﷺ؛ ولذا فإنه يجدر بنا الاتحاد والاصطفاف والالتفاف خلف القائد؛ لأن ذلك من أهم أسباب النجاة، وتحقيق الفوز والانتصار، ولأن الاختلاف والتفرق والتشرذم من أهم أسباب إضعاف القوة، وذهاب الريح، وتحقيق الفشل والهزيمة، وقد وعى الصحابة -رضي الله عنهم- هذا الأمر جيدًا، وضربوا في الاتحاد المثل الأعلى، فاصطفوا خلف النبي ﷺ، وانصاعوا لأوامره، وانقادوا لتعليماته، الأمر الذي كان عاملًا ضروريًّا جدًّا في تحقيق الفتح المبين والنصر المُؤَزَّر على العدو.
فعلينا أن ننبذ الفرقة والاختلاف، وأن نتحد ونتعاون، وأن نعمل بروح الفريق، وأن نؤكد على مفهوم وأهمية العمل المشترك، وأن نحرص على توحيد الوجهة وتحديد الهدف، فاجتماع السواعد يبني الوطن، واجتماع القلوب يخفف المحن، والفرد ضعيف بنفسه، قوي بإخوانه، واليد الواحدة لا تصفق، والبناء الشامخ الذي يُبهرنا بجماله وتناسقه وتماسكه ما هو إلّا مجموعة من اللبِنات المتشابكة المتراكبة المُصْطَفّة بعضها فوق بعض بهندسةٍ عجيبة، ونظام دقيق، وقرص العسل الذي نلتذُّ بمذاقه، ويُدهشنا حسنُ صُنْعه وإتقانه، لم يكن يوماً ما من صنع نحلة واحدة، وإنّما هو نتاج آلاف النحلات، اتحدن على ذلك بتعاون فريد، وهمَّة عالية مذهلة؛ ولذا فكل قوة تكون ضعيفة إن لم تتآزر القٌوَى، وتتوحد الجهود.
وقد رُوِيَ أن أحد حكماء العرب قد أوصى أبناءه بالاتحاد والتعاون، ثم بَيَّنَ لهم ذلك بالبرهان وضرب المثل، فجمعهم، وأعطاهم تباعًا حُزْمةً من السِّهام، وطلب منهم أن يكسروها، فما استطاعوا، فأخذها وفرَّقها آحاداً بينهم، فكسر كل واحد منهم سهمه بكل يسر وسهولة، فأدركوا حكمة أبيهم، وعِظَمِ مقصده، ورمقوه رمقة إجلال وامتنان، فقال لهم كلمات خَلَّدها الدهر في وصايا العظماء:
كونُــــوا جميعًا يـــا بَنِيَّ إِذا اعتَرى … خَطْبٌ ولا تَتَفَرَّقُــوا آحـَــادَا
تأبَى القِداحُ إِذا اجْتَمَعْنَ تَكَسُّرًا … وإِذا افْتَرَقْنَ تَكَسَّرتْ أَفْرادَا
فما أجدرنا أن نثوب إلى رشدنا، ونستفيق من غفلتنا، ونوحد جهودنا وصفوفنا، ونجمع شملنا وكلمتنا، لنستعيد فخرنا وعزنا، ونسترد مجدنا وقوتنا.