بقلم د. حنان شبانة
أستاذ مساعد بجامعة تبوك سابقا
لا يكمن الخطر في وجود الأفكار الهدامة، فمثل هذه التيارات الفكرية عرفت المجتمعات كيف تتعامل معها عبر العصور، بل تكمن الخطورة الحقيقية حين يتراجع العقل الواعي ويترك الساحة خالية أمام ما يروج من أفكار مشوشة ومنذ زمن بعيد، تنبه المفكرون إلى هذه الأزمة التي تقع فيها المجتمعات حين يغيب الوعي الجمعي عن التمييز بين الحقيقة والزيف، حتى ليبدو أن ما قيل بالأمس بات اليوم انعكاسا واضحا للمشهد الرقمي المعقد، حيث تتقاطع الوسائط وتتهاطل المعلومات بلا انقطاع، في بيئة تفرض على العقول والقلوب تحديا مستمرا للتماسك والوعي.
لقد تحولت الشاشات من مجرد نافذة تطل بنا على العالم، إلى أداة يومية تشكل وعينا، وتعيد صياغة قيمنا، وتؤثر بعمق في معتقداتنا وهويتنا الدينية. فلم يعد التأثير الرقمي حبيس السلوك والعلاقات الاجتماعية، بل تمدد حتى بلغ مناطق الإيمان، فصار المحتوى الرقمي، بخفته الظاهرية وجاذبيته المتجددة، ساحة مفتوحة لبث رسائل تشكيك مبطنة تستهدف شريحة واسعة من الشباب الذين يعيشون على وقع التطبيقات والمقاطع القصيرة المتدفقة بلا توقف. وتزداد خطورة هذا المشهد حين لا يطرح الشك كما كان قديما في قوالب فكرية جادة، أو حوارات فلسفية صريحة، بل يتخفى بين صور ساخرة، وحكايات مصورة، وأسئلة عابرة تستدرج العقول للتشكيك دون تصريح، وتنفذ بهدوء إلى ثوابت الإيمان.
في هذا المناخ المضطرب، يجد كثير من الشباب أنفسهم محاصرين بين خطاب ديني تقليدي لم يحدث أدواته، ولا أطره التواصلية، وبين محتوى عصري مهيمن يتسلل -بلا استئذان- إلى تفاصيل اليوم العادي هنا لم تعد ظاهرة “الإلحاد الرقمي” مجرد هاجس مستقبلي يلوح في الأفق، بل تحولت إلى واقع معاش يتطلب مواجهة فكرية وتربوية واعية، تستثمر لغة العصر وأدواته، وتتعامل بمرونة مع المتغيرات، بديلا عن الاكتفاء بالتحذير، أو تجاهل عمق الأزمة.
وحين يتأمل الإنسان هذا المشهد، لا بد من أن يستحضر قول الله تعالى:﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ (محمد: 24) ، ويستدعي حديث النبي (صلى الله عليه وسلم) الذي رسم صورة دقيقة لأزمنة التقلب والاضطراب، حين قال:” بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم. يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا. يبيع دينه بعرض من الدنيا”. (رواه الإمام مسلم).
من هذه الرؤية تنبع الحاجة إلى الوقوف أمام ملامح هذه الظاهرة الجديدة واستعراض طبيعة خطابها الخفي، وأثرها العميق في تشكيل وعي الشباب المسلم، مع طرح تساؤلات ملحة حول سبل تجديد الخطاب الديني ليواكب الثقافة الرقمية -دون تفريط- في الثوابت أو انغلاق على الجمود.
وتزداد الصورة وضوحا حين نقترب من تجارب فردية حية. إذ تمثل قصة أي شاب مسلم يتعرض للمحتويات المشككة عبر الإنترنت صورة كاشفة عن التحولات التي يعيشها جيل جديد في نظرته إلى الدين.
فالشاشة لم تعد وسيلة للمعرفة وحدها، بل تحولت إلى ساحة يبث فيها الشك متخفيا في محتوى ترفيهي ظاهري، يعيد إنتاج التساؤلات حول الهوية الدينية، والمعتقدات الراسخة بشكل مستتر. ومع فقدان كثير من الشباب لمساحات حوارية مفتوحة داخل الأسرة، أو المؤسسة التعليمية والدينية، تتفاقم حالة الارتباك، في حين تعجز الأطر التقليدية عن مواكبة هذا القلق المشروع. ومن قلب هذا الواقع يبرز سؤال يستحق التأمل: في زمن تتقاطع فيه الشاشات مع المعتقدات، من يحرس إيمانك حين تكون وحدك أمام هذا العالم الافتراضي؟
ولا يخفى أن مفهوم “الإلحاد الرقمي” ذاته أصبح يتخذ أشكالا جديدة أكثر نعومة وخفاء ففي عصر تتداخل فيه الحدود بين الواقع المادي والافتراضي، تعاظم تأثير الشاشات على منظومة القيم والمعتقدات. والمحتوى الذي يستهلكه الشباب يوميا بات يشكل حاجزا نفسيا وثقافيا بين الموروث الديني والواقع المتسارع، ما أدى إلى نشوء نمط جديد من الإلحاد غير المعلن، لا يعبر عن نفسه صراحة، بل يتسلل في صورة أفكار مشوشة وأسئلة متكررة. ولأن هذا التيار يستفيد من غياب حوارات جادة وتفاهم متبادل بين الأجيال، فهو يعتمد في انتشاره على أدوات جاذبة مثل: المقاطع الساخرة، والمعلومات المغلوطة التي تعاد صياغتها بشكل خفيف تمرره الخوارزميات الذكية. ومع غياب الوعي النقدي لدى المتلقي، يجد الشباب أنفسهم عرضة لرسائل تشكك تقدم في قوالب جذابة، يصعب مقاومتها وسط زخم الوسائط، ويتعقد هذا المشهد مع تصاعد أزمة خطابين متناقضين يطوقان الشباب المسلم: خطاب ديني تقليدي يكرر صيغا جامدة بلغات وأدوات لم تعد قادرة على التأثير، وخطاب عصري طاغ يتقن لغة الصورة والمشهد والدراما.
وبين هذا وذاك، تغيب مساحات الحوار الرصين داخل الأسر والمؤسسات التربوية، ما يؤدي إلى اتساع فجوة معرفية يستثمرها الإلحاد الرقمي بدهاء، لتغذية الشكوك عبر محتوى يبدو في ظاهره بريئا وليس من المبالغة القول بإن وسائل التواصل الاجتماعي أسهمت في توسيع نطاق هذه الظاهرة وزيادة أثرها، حتى باتت بعض المنصات تسهم بشكل مباشر في تهميش الثقة بالمؤسسات الدينية التقليدية، وتوجيه الشباب نحو مسارات فكرية شديدة التشويش.
ويزداد المشهد التباسا حين تتقاطع القيم الدينية مع محتويات رقمية حديثة تتعارض غالبا مع الثوابت العقائدية، إذ يعيش كثير من الشباب حالة من الحيرة والتردد نتيجة هذا التناقض، حيث تتصادم المبادئ التي نشؤوا عليها مع مفاهيم جديدة يعرضها الإنترنت في سياقات محببة.
وتتشابه أسباب ابتعاد الشباب عن الدين إلى حد بعيد مع الاتجاهات العالمية، مما يكشف عن أزمة تواصل وضرورة أن تعيد المؤسسات الدينية النظر في طرائقها وخطابها.
وفي ظل هذا التداخل الاجتماعي والثقافي الحاد، تزداد الحاجة إلى استحداث وعي جديد يعيد ترتيب العلاقة بين الإيمان والعقل، بين الثابت والمتجدد، وبين الموروث والحديث، فلا بد من خطاب ديني معاصر يستوعب أدوات العصر ولا ينفصل عن الثوابت، يمنح الشباب مساحة آمنة للتساؤل، ويجيبهم دون تخويف أو تبكيت، بل بلغة العصر، ووسائطه، وتحدياته.
وفي النهاية، يظل العقل الواعي هو الحصن الأخير في مواجهة موجات التشكيك، وموجات التشويش المعرفي فظاهرة “الإلحاد الرقمي”، بخطورتها الخفية وتأثيرها المتنامي، ليست قدرا محتوما، بل دعوة صريحة لمراجعة أدواتنا الفكرية وأساليبنا الخطابية. آن الأوان لأن يتحرر الخطاب الديني من قوالبه الجامدة، فيخاطب وجدان الشباب بلغة عصرهم، ويمنحهم مساحات آمنة للحوار والتأمل، دون أن يشعرهم بأنهم على حافة الخروج من الملة إن تجرؤوا على السؤال.
فالمسؤولية اليوم لم تعد قاصرة على عاتق المؤسسات الدينية وحدها، بل غدت واجبا جماعيا يشمل الأسرة، والمعلم، والمثقف، وكل من أدرك حجم التحولات الفكرية المتسارعة وأثرها العميق إننا جميعا مدعوون لبناء فضاء فكري متوازن، يوفق بين نور الإيمان وصوت العقل، بين الثوابت الراسخة والتجديد الواعي، ويعيد صياغة الخطاب بما يلائم روح النص ومتطلبات الواقع، وقد قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً ﴾ (التحريم: 6)، وقال النبي (صلى الله عليه وسلم):” كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته”. ( رواه الإمام البخاري).
ويبقى أن نتأمل في تلك المقولة البليغة:”الخطر الحقيقي ليس في انتشار الأفكار الهدامة، بل في غياب العقول الواعية عن التصدي لها “. فهل آن الأوان لأن ينهض هذا العقل، ويتصدر المشهد؟ وأن يحاسب كل منا نفسه عند كل غفلة: من يصوغ وعيي؟ وما الذي فعلته اليوم لحماية فكري وإيماني وسط هذا الطوفان من المفاهيم المتباينة؟
لعلها لحظة صدق مع الذات… تكون بداية الوعي، وخطوة أولى نحو إنقاذ جيل يبحث عن المعنى والاتزان في زمن التغير.