تعد حرية الرأي والتعبير في الإسلام في مرتبة عالية باعتبارها أهم حقوق الإنسان في حياته فهي أساس الحريات كلها إذ لا قيمة لتقرير أي حق من الحقوق دون أن يكون الإنسان محررا من خوف التعبير عن نفسه والمطالبة بحقه.
فحرية الرأي من حقوق المسلم، وحرية الرأي في الحضارة الإسلامية حقٌّ مكفولٌ للمسلم وثابتٌ له؛ لأن الشريعة الإسلامية أَقَرَّتْهُ له، وما أَقَرَّهُ الشرع الإسلامي للفرد لا يملك أحدٌ نَقْضَهُ أو سلبه منه أو إنكاره عليه، بل إن حُرِّيَّة الرأي واجب على المسلم لا يجوز أن يتخلَّى عنه؛ لأن الله تعالى أوجب عليه النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يمكن القيام بهذه الواجبات الشرعية ما لم يتمتَّع المسلم بحقِّ إبداء الرأي وحريته فيه، فكانت حرية الرأي له وسيلة إلى القيام بهذه الواجبات، وما لا يَتَأَتَّى الواجب إلاَّ به فهو واجب.
أولًا: مفهوم الحرية في الإسلام: المفهوم الإسلامي للحرية فهي تعنى :” رفع سيادة الإنسان عن الإنسان أو رفع سلطان البشر عن البشر”، وبالطبع لا يرد ذلك علي سلطة الحاكم علي رعيته، ولا الوالد علي ولده، ولا الزوج علي زوجته، كما تعرف شرعا بأنها:” هي المكنة العامة التي قررها الشرع للأفراد علي السواء تمكينًا لهم من التصرف علي خيرة من أمرهم دون الإضرار بالغير من الأفراد أو المجتمع”، وقد عرفها بن القيم الجوزية عندما عرف الحر بأنه:” من تخلص من رق الماء والطين وفاز بعبودية رب العالمين، فاجتمعت له العبودية والحرية، فعبوديته من كمال حريته، وحريته من كمال عبوديته”؛ كما عرفها البعض من الجانب الشرعي بأنها: ” الخروج من رق الشهوات”، كما عرفت بأنها: “هي أغلي ما يشعر به المرء في هذا الوجود”، وعرفت بأنها:” أن تتصرف في كل أمر مشروع لك وليس فيه تعد على حقوق الأخرين ويكون داخلًا ضمن عبوديتك لربك، وامتثالك لأمره ونهيه”، وبأنها: “ألا يملكك الجهل، ولا تفعل إلا ما يوجبه العقل”، ومن التعريفات السابقة نجد أن كل تعريف يعبر عن أفكار ومعتقدات من يطرحه فنجد أن الصوفية تعنى لديها التخلص من الشهوات.
مفهوم الرأى
ثانيًا: مفهوم الرأي في الإسلام: عرف الرأي بمعرفة فقهاء الشريعة بأنه:” الاعتقاد في الأمر بالظن الغالب بوصفه نتيجة للنظر والتفكير والتأمل وطلب المعرفة”، وعرفه بن القيم الجوزية:” ما يعلم بالقلب ولا يري بالعين وخصه العرب بما لا يري بالقلب بعد فكر وتأمل وطلب لمعرفة وجه الصواب مما تتعارض فيه الأمارات فلا يقال لمن رأى بقلبه أمرًا غائبًا عنه مما يحسن به أنه رأيه، ولا يقال لمن رأى بقلبه أمرًا غائبًا منه مما يحس به أنه رأيه، ولا يقال للأمر المعقول الذي لا تختلف فيه العقول ولا تتعارض فيه الامارات أنه رأى وإن احتاج إلي فكر وتأمل كدقائق الحساب ونحوها”، وقد دعا الإسلام إلى استعمال الفكر والعقل في جميع أمور الدنيا والدين، للتحرر من ربقة التقليد الأعمى للآباء والأجداد في بناء العقيدة، والاهتداء على الحق الذي لا يقبل الله سواه، وإثبات استقلال الذات أو الشخصية، ولتحمل مسؤولية الإنسان قراره في اختيار الطريق السوي أو المعوج، ومن أجل بناء الحياة الإنسانية وتقدمها، وعمران الكون، وبقاء النوع البشري القوي، وذلك في نصوص قرآنية كثيرة تدعو إلى إعمال الفكر والعقل وتفعيل دور العلم في نواحي الكون، وقد تستعمل في القرآن بدلًا من لفظ الحضارة تعابير القلب، والبصيرة، والبصر، والسمع، والفؤاد ونحوها من مفاتيح المعرفة، مثل قول الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} آل عمران: 190، وقوله سبحانه وتعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} الحج: 46؛ وإعمال الفكر والعقل ظاهرة شائعة في نهايات كثيرة من آيات القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} يونس: 24؛ وقوله عز وجل: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} الروم: 28؛ وقوله عز وجل: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} النحل: 12.
حرية التعبير
ثالثًا: حرية التعبير عن الرأي في الشريعة الإسلامية، دعا الإسلام أيضًا إلى حرية التعبير عن الرأي، ابتداء أو نقدًا بناءًا، سواء في مجال تلمس الخير والمصلحة والصواب في قضايا الدين، أو منأجل رعاية مصالح المسلمين عامة، وهو ما أكدت عليه السنة النبوية قولًا وفعلًا بترجمة هذه الظاهرة إلى واقع عملي في أحاديث كثيرة منها: “لا تكونوا إمعة -أي تقولون: نحن مع الناس في اتجاههم دون تبين الحق- تقولون: أن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا”؛ ومنها قوله – صلي الله عليه وسلم-: “كلا والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا (أي تردعونه وتحملونه على الحق وترك الباطل)”. بل حرص الإسلام كل الحرص علي أن يهيأ المجتمع نفسه كي يمارس حقه في التعبير والنقد دون خوف، فنجد أن الله تعالي وله المثل الأعلى قد سمح لإبليس اللعين أن يجادله ويناقشه ذاكرًا سبحانه ذلك في القرآن الكريم فقال تعالي: “قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ(75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ(76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ(77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ(78) قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ(80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ(81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(82) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ(83)سورة ص الآيات: من 75 حتى 83؛ فكيف لله سبحانه وتعالي أن يرضي أن يناقشه ويجادله إبليس اللعين في أمر من أوامره التي أمره بها ولا نرضي نحن ذلك، بيننا وبين أنفسنا؟!
وها هو موقف للنبي ـ صلى الله عليه وسلم- مع شاب مسلم جاء يستأذنه في الزنا، يوضح إلي أي مدى يحترم الإسلام حرية الرأي والتعبير فعن أبي أُمامة- رضي الله عنه-: قال: إن فتى شابا أتى النبيَّ- صلى الله عليه وسلم- فقال: “يا رسول الله، ائذن لي بالزنا! فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه، فقال: ادنه، فدنا منه قريبا، قال: فجلس، قال: أتحبه لأمك؟ قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا واللَّه، يا رسول اللَّه جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا واللَّه جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم، قال: فوضع يده عليه وقال: اللَّهمّ اغفر ذنبه وطهِّر قلبه، وحَصِّنْ فرْجَه، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شئ؛ وفي رواية أخرى: قال: اللهم طهر قلبه، واغفر ذنبه، وحَصِّنْ فرْجَه، فلم يكن شئ أبغض إليه منه، الزنا.
فواضح من الحديث أن الصحابة انتفضوا عندما سمعوا ذلك الشاب يستأذن في الزناوهو جريمة كبري في الإسلام، فزجروه: “مه.. مه”، ولكن النبي عالجه بطريقة أخرى وذلك بيان مفاسد مطلبه، وسوء عواقبه، ولم ينظر النبي إلى ذلك الشاب على أنه فقد الحياء والخير، بل تفهم حقيقة ما بداخله من شهوة، ولمس جانب الخير فيه، فتعامل معه بمنطق الإقناع العقلي مع الشفقة والحب، فأثابه إلى رشده، وأرجعه إلى طريق العفة والاستقامة، حتى أصبح رافضًا للرذيلة، كارهًا لها، وقد احتوى هذا الموقف على كيفية الإقناع بالأسلوب العقلي ومناقشة الحجة بالحجة، بقوله: أتحبه لأمك؟! أفتحبه لابنتك؟ أفتحبه لأختك؟! أفتحبه لعمتك؟! أفتحبه لخالتك؟! وكان يمكن للرسول أن يكتفي بضرب مثلًا واحد كقوله: أتحبه لأمك؟! لكنه عَدَّدَ محارمه زيادة في الإقناع، ودلالة على أن ما قد يأتي من النساء لا تخلو أن تكون أمًا، أو بنتًا، أو عمة، أو خالة لأحد من الناس؛ وفيما رواه عمرو بن العاص عن النبي قال: “إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر”، كما أن هناك حديثا يعلى من شأن حرية التفكير والتعبير والذي ورد فيمن يجتهد ويتحرى الحق وينظر في الأدلة الشرعية من القرآن والسنة ويتحرى الحكم الشرعي لكنه لم يصبه، فهذا له أجر الاجتهاد ويفوته أجر الصواب وخطؤه مغفور؛ والثاني اجتهد في طلب الحق واعتنى بالأدلة الشرعية ليس له قصد سيئ، بل هو مجتهد طالب للحق فوفق له واهتدى إليه وحكم بالحق فهذا له أجران: أجر الإصابة، وأجر الاجتهاد؛ وفي تخطئة المرأة لعمر لما نهى عن المغالاة في المهور وقبول عمر لتخطئة المرأة، ما يفيد أن أصحاب النبي ساروا على هديه في فتح المجال لحرية الرأي البناء الذي يقصد به صاحبه إصابة الحق، وتقويم الاعوجاج، وإصلاح الأوضاع.