الخلاصة: لا رهبانية ولا تنطع فى دين الله
إبراهيم نصر
فى بداية شهر رمضان المعظم أصدرت وزارة الأوقاف بيانا أوضحت فيه أن قراءة جزء كامل فى صلاة التراويح كل ليلة، ليس مأمورا به حتى تعممه الوزارة فى كل المساجد، ولا منهيا عنه فتمنعه.
وأكد البيان ضرورة مراعاة أحوال الناس فى كل حى وفى كل مسجد، ولا يجوز الإنكار على من صلى بجزء ولا يجوز كذلك الإنكار على من صلى بأكثر أو أقل.
من وحى هذا البيان يتبادر إلى الأذهان سؤال قد يراود الكثيرين: هل يستحب للإنسان أن يأخذ نفسه بالشدة فى العبادة من منطلق مقولة: “الأجر على قدر المشقة” أو هو يأخد بالأيسر إعمالا للقاعدة الفقهية: “المشقة تجلب التيسير” وكيف نوفق بين هذا وذاك إذ يتوهم البعض التعارض بينهما؟
وهذا الكلام ليس بدعا من القول، إنما تطرق له العلماء الأفاضل فى سابق العصور، وأدلوا بدلوهم فى رفع ما يبدو تعارضا بين أخذ النفس بالشدة فى العبادة، والبحث عن الأيسر.
يسر.. لا عسر
فلاشك أن الدين الإسلامى الحنيف هو دين اليسر لا العسر، ودين السماحة لا الغلو والتشدد أو التطرف، فآيات القرآن الكريم وأحاديث خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد واضحة فى دلالتها على هذا المعنى، قال تعالى: “لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا..” (286- البقرة).
ومع التسليم بأن الله تعالى لم يكلف عباده ما لا يطيقون ولم يأمرهم بما لا يستطيعون، إلا أن ذلك لا ينفي وجود شئ من المشقة في بعض العبادات والطاعات والتكاليف، إذ لولا ذلك لما سمي التكليف تكليفا، كما أن تضمين بعض التكاليف الشرعية قدرا من المشقة أمر لابد منه ليميز الله من خلالها عباده الصادقين بمحبته من الأدعياء والكاذبين.
ومعلوم أن حقيقة إيمان العبد لا تظهر إلا من خلال شهادته بالحق والتزامه بأوامر الله سبحانه واجتناب نواهيه التي لا تخلو من مجاهدة نفسه ومخالفة شهواته وأهوائه.
المشقة ليست مقصودة لذاتها
وهنا نود التأكيد على أن المشقة ليست مقصودة لذاتها في دين الله الإسلام، وإنما المقصود الالتزام بأمر الله تعالى ونهيه الذي لا يخلو بطبيعة الحال من مشقة وجهد ومخالفة للرغبات والشهوات، وبهذا المعنى نستطيع أن نستحضر مقولة: “الأجر على قدر المشقة” مع التنبيه إلى أنها ليست على الإطلاق كما يظن أغلب العوام من المسلمين، بل هي محصورة ومقصورة في العمل المشروع الذي يستلزم المشقة والتعب بطبيعته كما هو الحال في صيام رمضان أو إتباعه بالأيام الستة من شوال التي تتزامن مع شدة الحر مثلا، فالثواب والأجر قد يكون على قدر المشقة والتعب، لا لكون التعب والمشقة مقصودان من العمل، وإنما لكون العمل مستلزم للمشقة والتعب.
ولمزيد إيضاح نذكر حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: بَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ، فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا: أَبُو إِسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلَا يَقْعُدَ وَلَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ” صحيح البخاري.
ويقول شيخ الإسلام العزُّ ابن عبدالسلام يقول فى كتاب “قواعد الأحكام”: قد علمنا من موارد الشرع ومصادره: أنَّ مطلوب الشرع إنما هو مصالح العباد في دينهم ودنياهم، وليست المشقة مصلحة، بل الأمر بما يستلزم المشقة بمثابة أمر الطبيبِ المريضَ باستعمال الدواء المرّ البشع، فإنه ليس غرضه إلا الشفاء.
فالمشقة التي قد يجدها البعض اليوم في أداء بعض العبادات والطاعات كصيام رمضان أو صيام ست من شوال أو أداء صلاة التراويح في جماعة، هي بإذن الله مأجورة، ولا ينبغي أن تصرف تلك المشقة البعض عن المبادرة على الإقبال عليها بذريعة أن دين الله يسر لا عسر وأن سمة الشريعة الإسلامية السهولة والسماحة لا التضييق والتشديد.
لا ربانية ولا تنطع
أما أن يستدل البعض بمقولة: “الثواب على قدر المشقة”، على أنواع من الرهبانيات والعبادات المبتدعة التي لم يشرعها الله ورسوله، من تحريمات المشركين وغيرهم ما أحل الله من الطيبات، ومثل التعمق والتنطع الذي ذمه النبي حيث قال: “هلك المتنطعون” وأما قول: الأجر على قدر المشقة، فقد تكون الطاعة لله ورسوله في عمل ميسر كما يسر الله على أهل الإسلام الكلمتين وهما أفضل الأعمال. ولذلك قال النبي: “كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان على الميزان، حبيبتان إلى الرحمن، سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم” رواه البخارى.
وقوله: “الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأه ويتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران”.
وكثيراً ما يكثر الثواب على قدر المشقة والتعب، لا لأن التعب والمشقة مقصودان من العمل، ولكن لأن العمل يستلزم المشقة والتعب.
ليست مقصودة لذاتها
وقال الإمام العز بن عبدالسلام: إذا اتحد الفعلان في الشرف، وكان أحدهما شاقًا، فقد استويا في أجرهما لتساويهما في جميع الوظائف. وانفرد أحدهما بتفرد المشقة لأجل الله سبحانه وتعالى، فأثيب على تحمل المشقة لا على عين المشتاق، إذ لا يصح التقرب بالمشاق. لأن القرب كلها تعظيم للرب سبحانه وتعالى وليس عين المشاق تعظيمًا ولا توقيرًا.
فإذا باشر الإنسان عملاً وترتبت عليه مشقة غير مقصودة، أو لم تكن له إلا وسيلة واحدة إلى ذلك المقصود، فإن الله تعالى بفضله وكرمه لا يحرمه من الأجر والثواب بسبب تلك المشقة الحاصلة تبعًا بغير قصده واختياره. فسبحان من جعل هذا الدين ميسرًا فطريًا، وسبحان الله الذي لم يجعل علينا في الدين من حرج، ولم يكلفنا ما لا يطاق. لما في ذلك من قهر للنفس ومجافاة للاعتدال: فقد دخل رسول الله عند أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وعندها امرأة فقال: من هذه؟ قالت: فلانة، تذكر من صلاتها. قال: مه! عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل حتى تملوا، فكان أحب الدين إليه ما دام عليه صاحبه” أخرجه الإمام البخاري في كتاب الإيمان.
قدر الطاقة
ولو قيل: إن التكليف على قدر الطاقة، لكان ذلك القول سليما، لأن السقيم ليس كالصحيح في التكليف، فقد اتفق المسلمون على أن المصلي إذا عجز عن أداء بعض واجبات الصلاة كالقيام أو القراءة أو الركوع أو السجود أو ستر العورة أو استقبال القبلة أو غير ذلك، سقط ما عجز عنه.
وإنما يجب عليه ما إذا أراد فعله إرادة جازمة أمكنه ذلك، بل متى كان العبد قادرًا على الفعل مع ضرر يلحقه جعل كالعاجز في مواضع كثيرة من الشريعة، كالتطهر بالماء والصيام في المرض، والقيام في الصلاة تحقيقًا لقوله تعالى: “يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر”.
المشقة تجلب التيسير
ومن القواعد الأصولية: “المشقة تجلب التيسير”، وكذلك: “الأمر إذا ضاق اتسع”، فالقصد في الطاعات المصلحة للمكلف لا المشقة له، وذلك ليؤدي الطاعة في انشراح صدر ونشاط نفس، وليس للمكلف أن يقصد المشقة نظرًا إلى عظم أجرها. وله أن يقصد العمل الذي يعظم أجره لعظم مشقته من حيث هو عمل، فالله سبحانه وتعالى لا يريد الإعنات والشقة، فقد جاء في الحديث الصحيح الذى أخرجه الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه عن النبى: “إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق”.
فكما أن من مداخل الشيطان الإهمال، فمن مداخله أيضا الغلو فلنحذر من نزغات الشيطان، ولنصفّ النفوس من تلك الوساوس الشيطانية وقد قال بعض السلف: ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان إما إلى تفريط وإما إلى مجاوزة وهي الإفراط، ولا يبالي بأيها ظفر زيادة أو نقص.
أما ما نجده من تعمد المشقة وقصدها ظنًا أن في ذلك تكثيرًا للحسنات، فهو من تتأثير فصل الدين عن الحياة، أما الإسلام فشأنه الدعوة للاقتصاد في العبادة، لأن ذلك أدعى للإقبال على العبادة بنشاط، فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل فإذا حبل ممدود بين الساريتين فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا حبل زينب، فإذا فترت تعلقت به فقال: “لا، حلوه فليصلّ أحدكم نشاطه، فإذا كسل أو فتر فليقعد” أخرجه الإمام مسلم.
فالقصد هو الطاعة والامتثال لأمر الله، وفي ذلك مصلحة للمكلف لا المشقة له.
ونختم بحكمة جميلة، رواها ابن الجوزى فى كتابه “صيد الخاطر” حيث يقول: “إن مشقة الطاعة تذهب ويبقى ثوابها، وإن لذة المعاصى تذهب ويبقى عقابها.