رغم ما يُلصق بالإسلام من تشدّد في قضية النسل نظرا للفهم الخاطئ لبعض الأدلة الشرعية لتأكيد رفض الاسلام لأي تدخل في قضية النسل ولو بالتنظيم بحجة أنه تدخل في المشيئة الإلهية من جانب أو أنه يخالف دعوة الرسول للتكاثر حتى يباهي بكثرتنا الأمم يوم القيامة.
من هنا تأتي أهمية هذا التحقيق الذي يوضح وسطية واعتدال الاسلام في معالجة قضية تنظيم الاسرة بلا إفراط وتشديد ولا تفريط وتساهل، وذلك من خلال عرض أشهر الفتاوى الرسمية وكذلك آراء العلماء المعاصرين.
تعد دار الافتاء المصرية المرجعية الأولى لمصر والعالم الاسلامي في توضيح جوانب وملابسات تلك القضية الشائكة ولهذا أصدرت فتاوي متنوعة خاصة بها، فعندما سئلت عن حكم تنظيم الإنجاب أجاب د. شوقى علام- مفتي الديار المصرية- بقوله: الإسلام لم يفرض على كل مسلم أن ينجب عددًا معينًا من الأبناء، لكن حثَّ عموم المسلمين على النكاح والتكاثر، وذلك لمن كان منهم مستطيعًا، فقال النبي: «تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ». أما غير المستطيع بسبب ظروفه المالية فقد أمره الشرع بالصبر والاستعفاف: “وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ”، وأرشده إلى عبادة الصوم وِجاءً له من وساوس الشيطان وتغلب الشهوات؛ فقال النبي: “يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصن لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ”.
وأشار المفتي الي أنه كما من لم يستطع القيام بأعباء ومسئوليات الزواج لزمه الصبر حتى تتهيأ له الظروف، وكذلك من غلب على ظنه عدم القدرة على القيام بواجبات الأبوة، فإنه لا بأس عليه في أن يلتمس الوسائل المشروعة لتأخير الإنجاب مؤقتًا وهو ما يطلق عليه “تنظيم الأسرة” إذا اتفق على ذلك الزوجان وارتضياه لمصلحة الأسرة ودفع المشاق والأضرار عنها إلى أن تتحسن ظروف الأسرة ومستواها المعيشي ،قول الله تعالى: “لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ”، والولد إنما يكون هدية وهبة تقر بها عين والديه إذا عاش سعيدًا في حياته، معافًى في بدنه، مستقيمًا في سلوكه، ناضجًا في تفكيره، بصيرًا بشئون دنياه ودينه، أما لو عاش تعيسًا منحرفًا سقيمًا، فإنه يكون مبعث ألم وتعب لوالديه وأسرته وأمَّته.
وأكد د. علام أن المقصود بتنظيم الأسرة المباح شرعا أن يتخذ الزوجان باختيارهما واقتناعهما الوسائل التي يريانها كفيلة بتباعد فترات الحمل أو إيقافه لمدة معينة من الزمان يتفقان عليها فيما بينهما، لتقليل عدد أفراد الأسرة بصورة تجعل الأبوين يستطيعان القيام برعاية أبنائهما رعاية متكاملة بدون عسر أو حرج أو احتياج غير كريم.
ورفض د. علام ما يزعمه المتشددون من أن العزل تدخّل في قدرة الله وهذا حرام فقال: لا قدرة لأحد على مخالفة قضاء الله وقدره، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ،وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: “أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي جَارِيَةً وَأَنَا أَعْزِلُ عَنْهَا وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ، وَأَنَا أُرِيدُ مَا يُرِيدُ الرِّجَالُ، وَإِنَّ الْيَهُودَ تُحَدِّثُ أَنَّ الْعَزْلَ المَوْءُودَةُ الصُّغْرَى قَالَ: كَذَبَتْ يَهُودُ، لَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَخْلُقَهُ مَا اسْتَطَعْتَ أَنْ تَصْرِفَهُ”، وعلى هذا لا يعتبر العزل تدخلًا غير جائز في القدر أو هروبًا منه، وإنما هو من باب الأخذ بالأسباب العادية التي إن شاء الله تعالى خلق عندها الأثر أو لم يخلقه كما هي عقيدة أهل السنة في ارتباط الأسباب بالمسببات بطريق جريان العادة، وأن كل أثر وقع في الكون فهو مخلوق، وأنه لا خالق سوى الله.
وأنهى د. علام فتواه في تنفنيد مزاعم المحرمين لتنظيم الأسرة قائلا: يكفي أن أعرض لهؤلاء الفهم الصحيح لقول النبى: “كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُولُ”، والإضاعة كما تكون بعدم الإنفاق المادي تكون أيضًا بالإهمال في التربية الخلقية والدينية والاجتماعية، فالواجب على الآباء أن يحسنوا تربية أبنائهم دينيًّا، وجسميًّا، وعلميًّا، وخُلُقيًّا، ويوفروا لهم ما هم في حاجة إليه من عناية مادية ومعنوية، وما لم يغلب على ظن الإنسان أن لديه القدرة على تحمل مسئولية الأولاد، فإنه ما لم ينظم عملية الإنجاب عرض نفسه لتكلف ما يفوق وُسْعَه من واجبات، بل تعرض بذلك للوقوع في إثم الإخلال بحقوق من سيعولهم من الأبناء، بما يعود عليه وعلى زوجته وأولاده بالمشقة والضرر، والله تعالى لا يرضى أن يُضارَّ والد ولا والدة بسبب ولدها.
فتاوى مستنيرة
وردا على المغالطين الذين يتهمون دار الافتاء بانها “مسيّسة” فإنه بالرجوع الي الفتاوى القديمة ومنها فتوى للشيخ جاد الحق علي جاد الحق، وقت أن كان مفتيا 1979، حيث سئل: هل تنظيم النسل أمر جائز في الشريعة الإسلامية؟ فأجاب: يجب أن يستقر في الأذهان أن مرجع الأحكام الشرعية ومصدرها من حيث الحل والحرمة والجواز والمنع هو كتاب الله تعالى وسنة رسوله، وباستقراء آيات القرآن يتضح أنه لم يرد فيه نصٌّ يُحرّم منع الحمل أو الإقلال من النسل، وإنما ورد في سنة الرسول ما يفيد ظاهرُهُ المنعَ.
ونفي الشيخ جاد الحق ما يردده ضيّقو الأفق بأن تنظيم الأسرة معاندة لقدر الله، إن قدر الله غيبٌ غير معروف، لكن تجربة الإنسان ترشده إلى أنَّ فعلَ أمرٍ يترتب عليه حدوثُ أمرٍ آخر ما تحقق فعلًا؛ فذلك أمره متروكٌ إلى الله وحده الذي يُرتب المسببات على أسبابها العادية، ويدل لهذا قول رسول الله في شأن العزل: «مَا مِنْ كُلِّ الْمَاءِ يَكُونُ الْوَلَدُ، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ خَلْقَ شَيْءٍ لَمْ يَمْنَعْهُ شَيْءٌ» إلا أنه يحرم التعقيم لأيِّ واحدٍ من الزوجين أو كليهما إذا كان يترتب عليه عدم الصلاحية للإنجاب مستقبلًا؛ سواء كان التعقيم القاطع للإنجاب بدواءٍ أو جراحةٍ، إلا إذا كان الزوجان أو أحدهما مصابًا بمرضٍ موروثٍ أو ينتقلُ بالوراثة مضرًّا بالأمة حيث ينتقل بالعدوى وتصبح ذريتهما مريضةً لا يستفاد بها، بل تكون ثقلًا على المجتمع، سيما بعد أن تقدم العلم وثبت انتقال بعض الأمراض بالوراثة، فمتى تأكد ذلك جاز تعقيم المريض بل ويجب دفعًا للضرر؛ لأن درء المفاسد مقدمٌ على جلب المصالح في قواعد الشريعة الإسلامية، وكذلك لا يجوز الإجهاض كوسيلةً من وسائل تنظيم بعد مائةٍ وعشرين يومًا.
وأنهى الشيخ جاد فتواه مؤكدا أنه لا تعارض بين تنظيم النسل والتوكل على الله في الرزق لأن منع الحمل مؤقتًا بالعزل أو بأية وسيلة حديثة لا يعدو أن يكون أخذًا بالأسباب مع التوكل على الله شأن المسلم في كل أعماله؛ أرأيت إلى الرسول حين قال لصاحبه: «اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ» وإني أتساءل: هل قول الله تعالى: “وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا” يسمح بالكف عن طلب الرزق اعتمادًا على أنه مكفول من الله؟!
ضوابط شرعية
وعن حكم اتفاق الزوجين على تنظيم فترات الانجاب، وهل هذا يدخل في تحديد النسل المنهي عنه شرعا، يوضح د. أحمد عمر هاشم- عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر- أن إنجاب الأولاد مطلب فطري ومقصود شرعي لتعمير الأرض والاستخلاف فيها، إلا أن العبرة في الإسلام ليست بالكثرة العددية فقط وإنما الواجب على الآباء تربية أبنائهم من الناحية الخلقية والاجتماعية والدينية والبدنية وغيرها، والإنفاق عليهم من مأكلٍ وملبسٍ ومسكنٍ وتعليمٍ وعلاجٍ وغير ذلك مما يحتاجون إليه سواء أكان ماديًّا أم معنويًّا، وليس الانجاب وتركهم في الشوارع ليكونوا لصوصا ومخرّبين ومجرمين وهذا ما يرفضه الاسلام بل إنه نوع من إضاعة الأولاد وآثم شرعا من يفعل ذلك.
وأنهى د. هاشم كلامه مؤكدا أنه لا مانع من تنظيم الاسرة إذا كان في الإنجاب خطورة على صحة الزوجة، أو خاف الزوجين على فساد الزمان على الذرية الكثيرة ولا يستطيعون الانفاق عليها وتربيتها تربية صحيحة، وهذا الجواز على المستوى الفردي، أَما على مستوى الأمة فلا يجوز المنْع المطلق من الإنجاب، لما فيه من الإخلال بنسبة التوازن التي أقام الله الخلق عليها، أو أن يتم تحديد طفل واحد لكل أسرة مثلما تفعل الصين التي تعاني من الخلل بين عدد الذكور والإناث.
الوعي لا المنع
ويؤكد د. محمد عبداللطيف قنديل- الأستاذ بكلية الدراسات الإسلامية للنبات بالإسكندرية، جامعة الأزهر- جواز تنظيم النسل إذا اتفق الزوجان على ذلك وكان لمصلحة معتبرة شرعا شريطة ألا يكون بقطعه تماما كاستئصال الرحم والتعقيم مثلا، وألا يكون الدافع إلى ذلك الاتفاق هو الخوف من ألا يجدا ما يطعمان به أولادهما وينفقانه عليهم؛ بل يكون الدافع هو تحقيق مصلحة معتبرة شرعاً، كذلك فإن الإنجاب حق مشترك للزوجين، لا يجوز لأحدهما أن يمنع الآخر منه دون عذر معتبر لأن الحقوق والواجبات متبادلة ويجب أن يكون قرار تنظيم النسل بالتفاهم بينهما.
وأشار د. قنديل إلي أن الإسلام اعتنى بالأسرة فجعل لها العديد من الحقوق والواجبات، ومن القواعد التي وضعتها الشريعة ليعتني بالأسرة جعل الدين أساس اختيار الزوج والزوجة، ورغم ترغيب الإسلام بتكثير النسل، واعتبره نعمة عظيمة من الله أكرم بها عباده، ولكننا نرفض الدعوات الحالية إلى تحديد النسل، أو منع الحمل لأن هذا يتنافي الفطرة الإنسانية التي أودعها الله في خلقه، ومن أهدافها إضعاف الكيان الإسلامي، وقد أفتى كبار علماء الأمة عبر التاريخ بعدم جواز تحديد النسل مطلقاً، كما حرم منع الحمل خوفاً من الإملاق أو الفقر لأن الله هو الرازق، ولا يجوز إصدار قانونٍ عام بتحديد عدد معين من الأطفال لكل الأسر، لأن لكل اسرة ظروفها الخاصة بها، ولكذا فإن الوعي الديني والاجتماعي هو الحل.