النصوص الدينية ثابتة.. ولا يصح إقحامها فى النظريات الأثرية
“لعنة الفراعنة” أسطورة.. لعب عليها الأدباء
الشغف بالحضارة المصرية القديمة.. “حنين فطرى” للأصل
مصر تقضى على أعدائها بسلاحى “المقبرة” و”التمصير”
المصرى حينما تواتيه الفرصة.. يتحول لمارد عملاق
افتتاح المتحف المصرى الكبير.. حدث تاريخى لم ولن يتكرر
حوار: مصطفى ياسين
تصوير: سندس أبو ستيت
وصف الخبير الأثرى العالمى د. ممدوح الدماطى- وزير الآثار السابق، عميد آثار عين شمس- مصر بأنها “سيدة” التراث الإنسانى، وأن الدنيا كلها “تحت أقدامها” بما تزخر به من كنوز تراثية لأكثر من 8 آلاف سنة حضارة إنسانية.
وأشاد بما يحققه الرئيس عبدالفتاح السيسى من إنجازات ومشاريع قومية عملاقة، واهتمام بإعاد إحياء التراث والحضارة المصرية القديمة، بما يُمثِّله ذلك من إعادة للعصر الذهبى للقوة الشاملة للدولة المصرية فى كافة مناحى وفنون الحياة الإنسانية.
وفيما يلى نص الحوار الذى أُجرى معه، مع افتتاح العام الدراسى الجديد فى الكلية الوليدة، آثار عين شمس.
*ما دلالة إنشاء كلية مستقلة بجامعة عين شمس للآثار، بالرغم من وجود قسم بكلية الآداب؟
** بداية أوضح الأسباب والفكرة حيث شَرُفت بكونى رئيس قطاع الآثار فى المجلس الأعلى للجامعات، اعتبارا من نوفمبر 2018، وهذا المنصب مسئول عن القطاع نفسه على مستوى الجمهورية، حيث يضم جميع عمداء وخبراء كليات الآثار، للاهتمام بتطوير العملية التعليمية فى مجال الآثار، كعمل أكاديمى، هذا بخلاف المسئولية عن أى لائحة أو تعديل أو مستجد يخص الآثار والتراث، وهناك تكليف من وزير التعليم العالى والبحث العلمى بوضع رؤية تصوّرية لعمل لائحة استرشادية متطورة لجميع القطاعات، فأصبح كل قطاع مسئولا عن وضع رؤية فيما يخصه بما يطوِّر من العملية التعليمية.
وفى قطاع الآثار تم تشكيل لجان داخلية متخصصة، فى الآثار المصرية القديمة، الإسلامية، واليونانية الرومانية، ترميم الآثار، ودرسنا جميع اللوائح، نظرنا للمزايا وتم تقويتها، وجوانب القصور وعالجناها، وهذه اللائحة تم اعتمادها فى أبريل 2020.
وفى جامعة عين شمس لدينا قسم الآثار المصرية أُنشئ 1998م ويضم ثلاث شُعَب: المصرية القديمة، الإسلامية، اليونانية والرومانية. وأعضاء هيئة تدريس متميزين فى جميع التخصصات، بالإضافة إلى المعهد العالى لدراسات البردي والنقوش وفن الترميم، وهو متخصص فى الدراسات العليا فقط، وأُنشئ 2015م.
واقترحنا على الجامعة ضم هذين الكيانين لمصلحة العملية التعليمية، خاصة وأن الرؤية كانت هى: التطوير وإضافة برامج جديدة. وهذا ما حدث بالفعل، بل أضفنا قسمين جديدين تماما يحتاج إليهما سوق العمل هما: علوم الآثار والحفائر، إدارة المتاحف والمواقع الأثرية.
وقد لمست هذا الاحتياج خلال توليتى مسئولية الوزارة.
بالإضافة إلى أن كلية الآداب يُفرض عليها عدد طلاب أكثر من المعتاد، حيث تقبل الطلاب ثم يتم توزيعهم على الأقسام بتنسيق داخلى، ففى العام الماضى فقط التحق بقسم الآثار 600 طالب وطالبة، وتم توزيعهم على الشُعَب الثلاث. ولكن حينما استقلَّت كلية الآثاروضعنا حدا أقصى 50 طالبا فى كل قسم، يعنى 250 فى الدفعة، وقد التحق بالكلية هذا العام 200 طالب فقط، وهذا العدد ممتاز جدا للعملية التعليمية، فقلَّة العدد ميزة لاهتمامنا بالكيف وليس الكم.
ولذا فرؤية تطوير أقسام الآثار على مستوى الجمهورية، هذا هو الصح والأوقع لها، بما ينعكس إيجابيا على المُنتَج النهائى وهو الطالب الخرّيج.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل لدينا جزء خاص بالرحلات العلمية، باعتباره جزءا أساسيا للتدريس، فبدأنا برحلات تعريفية للآثار ثم يدرسها فى قاعة المحاضرات، ثم النزول للموقع مرة أخرى بشرح علمى.
كما نظّمنا ندوات توعوية، فكانت الأولى بمناسبة احتفالات أكتوبر وعيد البحرية المصرية، والثانية بمناسبة حفائر كلية الآثار بمنطقة شيخ العرب همام بفرشوط، قنا، فهو كان شخصية متميزة جدا باعتباره حاكم الصعيد الفعلى، وقلعته السكنية تم عمل حفائر فيها، وخرَّجنا مجموعة متميزة من الآثار وأجرينا لها توعية جماهيرية، وهناك عمل درامى متميز للفنان القدير يحيى الفخرانى، والكاتب عبدالرحيم كمال، والمخرج حسنى صالح، والفنان سامح الصريطى، ونخبة من الفنانين، لذا استضافتهم كلية الآثار بالتعاون مع قطاع شئون المجتمع والبيئة، مع الكاتبة د. لميس جابر، في ندوة خاصة للتعريف بشيخ العرب همام من خلال الحفائر والعمل الدرامي.
فكل هذا نشاط للتوعية والتعريف بالحضارة بجميع مراحلها وتاريخها وتراثها لدعم الجانب الثقافى لطالب الكلية بما يساهم فى تخريج طلبة متميزين.
الحنين للأصل
*بم تفسِّر الإقبال والشغف لمعرفة الحضارة المصرية القديمة، لدرجة تحويل بعض الشخصيات لمساره العلمى والمهنى إلى التخصص فيها، مثل د. وسيم السيسى وبسَّام الشماع وغيرهما؟
** بداية لابد من احترام التخصص، وألا يتحدث فى الآثار إلا المؤهَّل والدارس فعلا لها، فأما د. وسيم السيسى- مع احترامى الشديد له- فهو طبيب مسالك بولية ومُحبّ للآثار، وليس خبيرا ولا متخصصا، وأكثر من 90% مما يقوله خطأ، وللأسف تتم استضافته باعتباره عالم آثار! فليس كونى محبًّا للآثار المصرية أن أتحدث فيها، فأنا أقرأ أشياء عن الطب فهل يمنحنى هذا الحديث فى الطب؟!
ونفس الشئ ينطبق على “بسام الشماع” فهو مرشد سياحي! صحيح المرشد لديه معلومات عن الحضارة المصرية، لكن معلوماته لا تتسم بالعمق الأثري والحضاري كالمتخصص، وهذ يتفق مع طبيعة عمله كمرشد.
ونفس الاستهجان من الإعلامى الذى يلجأ لاستضافة غير المتخصصين فى الآثار، مع العلم بوجودهم وبكثرة سواء فى الجامعات أو وزارة الآثار! أعرف ان هذا الاستسهال تواكب مع الثورة، لكن لابد من عودة الأمور إلى نصابها الصحيح.
أما فيما يتعلق بالشغف فهذا أمر طبيعى جدا لأن حب تلك الآثار يعتبر “الكينونة” الخاصة بكل شخص منا وفى أعماقه.
وهذا ما يجعلهم- مثلا- يقولون “مصر فيها ثلث آثار العالم، بل يقصرونها على محافظة الأقصر فقط”! وهذه معلومات يجب تصحيحها، فنحن لدينا لدينا أعظم آثار العالم وهذا يكفى، فليس بالكم (الثلث أو النصف) لأن التساؤل البديهى: من الذى حسب هذا الكم؟ وهل هذا بالمقارنة بآثار بلاد النهرين؟ فينيقيا؟ اليونان؟ الصين؟ أمريكا اللاتينية؟ شمال أفريقيا؟
أما إذا قلنا أننا نمتلك أعظم آثار وحضارة إنسانية، فلا أحد يستطيع إنكارها، وليس هذا فحسب بل أعظم وأغزر، فلا يوجد متحف عالمى يخلو من الآثار المصرية، فهى جزء أساسى من تلك المتاحف كلها، وهذا يعنى أن مصر موجودة فى كل مكان بالعالم.
الآثار المُقلَّدَة
*خرجت بعض الأصوات تحذر من تقليد آثارنا، كما حدث مؤخرا لتمثال أبو الهول الصينى المقلَّد، فماذا تقول حيالها؟
** أقول لهم: قلِّدوا كما شئتم، فلن تستطيعوا عمل الأصل. ثم إنه لا يوجد قانون يمنع التقليد، بل على العكس- كتَّر خيرك لما تقوم به من دعاية لآثارنا! فلاشك أن المشاهدين سيتساءلون: إذا كان التقليد هكذا فماذا عن الأصل؟! مما يدفعهم للسفر إلينا للتعرف على حضارتنا وآثارنا.
فالناس جميعا يجب أن يفهموا أن التراث والحضارة ملك للإنسانية جمعاء وللحضارة الإنسانية، ولذا فكثير من مناطقنا مثل مصر الإسلامية ومنف والأقصر وغيرها مسجَّلَة فى إدارة اليونسكو كتراث عالمى، فرؤيتنا يجب أن تكون أوسع وأشمل كثيرا من مجرد “التملُّك”، صحيح هذا التراث ملك لنا، لكنه يخص العالم كله فى ذات الوقت، ويكفى أننا أسياد هذا التراث وأصحابه.
ولدىَّ فى هذا الإطار محاضرة قدَّمتها بعدة أشكال، بعنوان “التواصل الحضارى”، والآن أُقدّمها بعنوان “صفحات من الحضارة المصرية” فى مصر وألمانيا وانجلترا وكندا والتشيك وأمريكا، وأُأَكِّد خلالها أن أصل جميع الحضارات الإنسانية- سواء فى العلوم، الطب، الفلك، الزراعة، مقياس النيل، الفنون، الرياضة، حتى العادات والتقاليد وغيرها من الأنشطة الحياتية للإنسان- أصلها مصر.
بل إن الزراعة والأرض والنيل يمثلان تواصلا حضاريا لم ولن ينتهى، فهذا امر طبيعى موجود فى كينونة الإنسان، من هنا يأتى الشغف بالحضارة المصرية القديمة لأن الإنسان يشعر بالحنين والرغبة فى العودة لأصله، فنحن أصل العالم.
تفنيد الادعاءات
*كذلك خرجت ادّعاءات تنسب بناء الحضارة المصرية لغير المصريين، كاليهود وبناء الأهرامات؟
** إذا جاء من يدّعى انه هو صاحب هذه الحضارة أو أن اليهود هم بناة الأهرام، فلا داعى لمشقة الرد عليه، بل نردد (وبناة الأهرام فى سالِف الزمان كَفَونى الكلام عند التحدى)، فالأهرامات- وخصوصا هرم خوفو- بُنيت قبل ظهور اليهود بألف عام، وهذا ينهى الجدل. فهل بنوه بأثر رجعى؟!
*ويرددون أيضا أن كائنات فضائية هى التى بنته؟!
** ولماذا جاءت وبنته على أرضنا نحن؟! وكما يدعون أن حضارتنا جاءت من وسط أفريقيا! طيب لماذا عندنا وليس عندهم؟! فهل معقول أن تكون الحضارة من عندهم، ونجدها عندنا وهم يفتقدونها؟!
كما قالوا أنها جاءت من العراق! صحيح هناك حضارة لكنها خاصة بهم، عاداتهم وطبيعتهم، وتميّزهم، كما ان لنا حضارتنا وتميّزنا، فكل حضارة لها تميّزها ومرتبطة بالبيئة والمجتمع وأرضه.
وأذكر فى هذا المقام، أثناء الحرب العاليمة الثانية، تم استخراج مقبرة “مِرِسْ عنخ الثالثة” زوجة “خفرع”، وفيها صورة تمثال لسيدة شقراء، فادّعوا أن الألمان هم الذين صنعوا الحضارة المصرية! وخلال دراستى للدكتوراه فى ألمانيا أراد أحدهم استفزازى وقال: الألمان هم بناة الحضارة المصرية ولستم أنتم! فأجبته بكل ثقة: أنت صح، فالمهندس كان مصريا، و”الفواعلى” ألمانيا! فما كان منه إلا أن نكَّس رأسه فى الأرض ولم يرد!
فلا أحد يستطيع إنكار فضل الحضارة المصرية على العالم والإنسانية، ولهذا نؤكد انها أكثر حضارة فى العالم مرَّت بمراحل قوة، وأيضا أكثر حضارة فى العالم مرَّت بمراحل ضعف!
أقوى حضارة
*وما معنى هذا؟!
** معناه أنها أقوى حضارةفى العالم بكل المقاييس، فمن يمرّ بكثرة قوة وكثرة ضعف معناه أن تاريخه مستمر فى حالة صعود وهبوط، وحضارته مستمرة، لأنه متفاعل وتتكالب عليه الأمم، فأول غزو جاءنا كان من الهكسوس، وبعد طردهم وإقامة الأسرة الـ 18، أعظم أسرة فى تاريخ الحضارة المصرية القديمة، وأعظم إمبراطورية فى عصر الملك تحتمس الثالث الذى حكم العالم القديم كله، نحن نتحدث عن عَظَمة، ثم جاءت بعدها مرحلة ضعف، ثم قوة، وهكذا حتى كانت آخر قوة فى عهد محمد على وحفيده إسماعيل، مراحل كثيرة من القوة فى العصور المتتالية: الفاطمى، الأيوبى، المملوكى، فالعَظَمة متوارثة مصريا.
وأصعب فترتين مرَّتَا على الحضارة المصرية هما: العصر الرومانى، وتبدأ من دخول “أغسطس” سنة 30 ق. م، وحتى دخول عمرو بن العاص، 641م، وكانت أصعب فترة مرَّت على مصر، فـ”روما” كانت تستنزف “تحلب” ثروات وخيرات مصر وتمنع عنها كل خير، بل وقع أكبر اضطهاد فى تاريخ البشرية للمصريين فى عصر “دقلديانوس”، فى عام الشهداء حينما ذبَّح قرابة نصف مليون قبطى.
أما ثانى فترة ضعف فكانت فى العصر العثمانى، تقريبا نفس الوضع. فالظاهر أن ما يأتى من أوروبا للاحتلال يكون نفس المنهج والنمط من الاستنزاف للثروات، من 1517م، عصر سليم الأول حتى بداية عهد محمد على، فرغم أنه امتداد للعصر العثمانى لكنه بدأ الاستقلال وبناء مصر الحديثة.
ومع ذلك فأول ما تأتي لمصر الفرصة تنطلق بسرعة الصاروخ، فهل يتصور أحد أنه مع بداية العصر الإسلامى تبدأ استرداد مكانتها، كجزء من الدولة الإسلامية، ثم فى عصر محمد على بهذه السرعة تتحول إلى قوة إقليمية ويكون لديها أقوى جيش، وبناء تعليمى وبعثات خارجية؟!
وهذا تأكيد على أن المصرى حينما تواتيه الفرصة يتحول إلى عملاق، وهذا ما يجعل الدنيا كلها تتكاتف ضده.
إسقاط على الحاضر
*وهل يمكننا تطبيق هذا الوضع على عصرنا الراهن؟
** بكل تأكيد هذا هو ما نعيشه حاليا، فمصر حاليا- ما شاء الله- ربنا يكرمها بقيادة الرئيس عبدالفتاح السيسى، تسير فى الطريق السليم نحو النهضة والتقدم، لذا فقُوى الشر العالمى تتصنّع الأزمات والتحديات معنا، مرة الإرهاب فى سيناء، قلاقل فى الغرب حيث ليبيا، وسد النهضة فى الجنوب، فهذه القوى لن تتركنا وشأننا، لأن العالم يدرك تماما لو أن مصر وقفت على قدمها ستصبح “سيدة العالم”، فتاريخ مصر طول عمره هكذا.
دور المواطن
*وما هو دورنا لمنع هذه العراقيل، والاستمرار فى التقدم والنهوض؟
** نحن نسير فى الطريق الصحيح كما قلت، نقيم البنية الأساسية المطلوبة، صحيح الناس تعانى بعض الشئ، وهذا طبيعى ومفهوم لأننا طوال عقود طويلة ليست لدينا هذه البنية الأساسية، بل تم تدمير القاعدة التى يمكننا الوقوف عليها، ونحن الآن فى مرحلة إعادة بنائها وبأقصى سرعة ليس استعجالا وإنما تأمينا لوجود مصر، لأنه هو الأساس الذى تقوم عليه مصر من جديد: اقتصاديا، عسكريا، سياسيا، فإذا كنا نعانى الآن فلننتظر ولننظر معا إلى مصر 2030- إن شاء الله- ستكون فى وضع آخر تماما، إذا سِرنا بنفس النمط دون أى عقبات أو تحديات وطوارئ خارجية، وأمامنا أكبر دليل، ففى زمن وأزمة كورونا كنا أفضل وأقوى من غيرنا بكثير.
فنحن بفضل الله نُعيد بناء البنية الأساسية فى كل المجالات الحياتية: زراعة، صناعة، إسكان، جيش، بمشروعات قومية كثيرة يتم إنجازها، عاصمة إدارية جديدة، تعمير سيناء، كل هذا يُرعب القوى العالمية من مصر.
والتاريخ يؤكد أن مصر بعد بناء الأهرامات وقعت وانكسرت انكسارا شديدا جدا فى عصر الانتقال الأول، وهناك بردية “إيبو وِرّ” تسجِّل هذا: (شاهَت الوجوه، أصبح الدم فى كل مكان، والسرقة فى كل مكان، الفلاح يخشى على نفسه ويذهب إلى حقله ومعه درعه) وهى نفس الصورة التى عشناها خلال ثورة يناير، ونحن نسمّيها أول ثورة طبقية واجتماعية فى تاريخ البشرية 2200 قبل الميلاد.
ثم جاء عصر الدولة الوسطى بازدهار ورفاهية ومشاريع زراعية فى الفيوم، بوضع كبير وقوى جدا، ثم جاءت مرحلة السقوط مرة أخرى بدخول الهكسوس واحتلالهم مصر، فكان عصر انتقال آخر، حتى جاء الملك أحمس وطردهم وبدأنا العصر الذهبى للحضارة المصرية: الكرنك، وداى الملكوك، تحتمس الثالث، حتشبسوت، أمنحتب الثالث، كل هذه العَظَمة. ثم عصر انتقال آخر ثم سقوط آخر بالغزو الفارسى، ثم العصر البطلمى ومصر سيدة العالم فيه خاصة فى عهد كليوباترا، ثم السقوط فى عهد أُكتافيوس، ثم أطول فترة سقوط فى العصر الرومانى واحتلال دام 670 سنة، من 30 ق.م، حتى 641م، ثم دخول الإسلام حين صارت مصر جزءا من دولة قوية وبدأت ترفع من قيمة ومكانة الإنسان وحقوقه وبدأت الدولة الوقوف مرة أخرى، والخليفة الفاطمى وبناء القاهرة الجميلة والعمارة فصارت دولة عظمى، ثم ضعفت فدخل الصليبيون، ثم التحرير على يد الأيوبيين وقائدهم صلاح الدين، ثم دولة المماليك القوية، صحيح أنهم ليسوا مصريين أصلا، لكن “التمصير” جعلهم مصريين. ومن هنا جاءت كلمة “مصر مقبرة الغزاة” فمعناها: إما تقسم ظهر الغازى وتقهره وتموِّته وإما “تُدوّبه” فيها فيصير خاصا بها.
وهنا نقطة مهمة جدا: فمن يتم تمصيره ويحب البلد ويخدمها ويعطيها فهو مصرى، فنحن نتحدث حتى اليوم عن أسرة محمد على والملك فاروق آخر ملك مصرى رغم أن الأصول من ألبانيا. فأول جيش تم بناؤه فى عهد محمد على، وأول تعليم للفلاحينأنتج الطهطاوى وعلى مبارك، وطه حسين فى عصر عباس حلمى الثانى.
مصر مجرد ما تمتلك الإمكانات والقيادة المخلصة تتحول إلى عملاق، فمثلا ما نعيشه حاليا تحت القيادة المخلصة والتى تدرك ثرواتها وإمكاناتها، وفى فترة 7 سنوات فقط أنجزت ما لا يمكن إنجازه فى عشرات السنين.
ولنَحْذَر من المخططات الخارجية، فالذى أسقط الخديوى اسماعيل وتوسّعاته حتى أوغندا وخط الاستواء هى القوى الخارجية خشية منه، وكان عيبه الاستدانة، حيث أدرك الإنجليز والفرنسيون أنه بمجرد الانتهاء من ديونه سيتحول إلى مارد عملاق، إذا مُنح عامين فقط كان سدد الديون وصارت مصر دولة عظمى، فأجبروه على التنحّى لابنه الخديوى توفيق الذى كان ضعيفا ورحّب بالاحتلال الانجليزى.
صورة مصر
*منذ أشهر قليلة احتفلنا بنقل المومياوات الملكية إلى متحف الحضارة، وبعد أيام قلائل نحتفل بإعاد إحياء وافتتاح طريق الكباش بالأقصر، فكيف ترى وتُقيّم حالة الإبهار المصرية للعالم بهذين الحدثين؟
** بداية كمتخصص نطلق اسمه الصحيح وهو طريق أبو الهول، وإن كان المسمّى العامّى هو طريق الكباش، فالتمثال رأسه آدمية وليس الكبش.
ونحن من خلال هذه الاحتفاليات نقدم للعالم صورة مصر، فمن خلال نقل المومياوات الملكية أو إعادة إحياء وافتتاح طريق الكباش، فنحن ننقل أعظم حكَّام التاريخ، وأمامنا مثل حين نُقلت مومياء رمسيس الثانى إلى فرنسا تم إطلاق 24 طلقة استقبالا لها فى المطار، ونفس الشئ حدث فى متحف الحضارة لاستقبال المومياوات الملكية وأغلبهم من ملوك الدولة الحديثة (العصر الذهبى للحضارة المصرية) وكان فى استقبالهم الرئيس السيسى.
وبهذا نُذكِّر الناس والعالم كله بعصر الازدهار المصرى، ومنهم الملك “سِخْنِن رَع” شهيد التحرير والذى بدأ الحرب فى طرد الهكسوس، واستكمل ابنه “أحمس” معركة التحرير، ثم ملوك تحتمس الأول والثالث وأمنحتب الثالث، الملكة حتشبسوت، سيتى الأول، رمسيس الثانى، مجموعة حكَّام أسماؤها تُرعب العالم القديم كله، فتخيّل أنك تستحضرهم ومعهم تاريخهم!
وسيتم إعادة هذا الأمر مرة أخرى بإحياء طريق الكباش، ثم بعد فترة وجيزة جدا إفتتاح المتحف المصرى الكبير، أعظم عمل كمؤسسة ثقافية عالمية، يضم عصور كل الأُسرات المصرية، من بدايتها للنهاية، 30 أسرة، 3 آلاف سنة، يقدمها للعالم، وعلى رأسها وأهمها مجموعة تماثيل “توت عنخ آمون”.
كل هذا يساهم فى تقديم ورفع اسم مصر عالميا، صحيح مصر لا تحتاج لدعاية بقدر احتياجها لاستمرار الوضع الآمن الذى حققته مؤخرا.
لعنة الفراعنة
*ما صحة القول بـ”لعنة الفراعنة”؟
** لا توجد لعنة فراعنة أبدا، فالحقيقة أن اللورد “كارنر” كان مريضا أساسا فظهر عليه المرض بعد كشف مقبرة “توت عنخ آمون”، وكانت طُرفة من الأدباء والكتَّاب مثل الراحل أنيس منصور، ولو فُرض ووجِدت هذه اللعنة لما ظل مكتشفٌ حيًّا حتى اليوم، ونحن نعمل ونكتشف مقابر كل يوم!
كنز لا ينضب
*هل سيأتى علينا يوم ونقول: لقد تم اكتشاف كل شئ ولم يبق هناك مكتشفات فرعوينة أخرى؟
** لا يمر علينا شهر بدون كشف أثرى جديد، ولا أعتقد أننا سنصل لهذه المرحلة بانتهاء الاكتشافات، لأننا نتحدث عن 3 آلاف سنة حضارة مصرية قديمة، 300 سنة حضارة يونانية رومانية، 600 سنة حضارة رومانية، وحضارة إسلامية من الفتح العربى حتى اليوم، فلن تتوقف الاكتشافات لأن حضارتنا مستمرة، والدنيا كلها عندنا “تحت البيت”، فمصر كنز مستمر لا ينضب أبدا.
المعارض الخارجية
*هناك جدل يُثار دوما مع كل معرض خارجى للآثار المصرية، فما السبب؟
** المعارض الخارجية علم وفن، إعلام، اقتصاد، ولا يصح وقفها، فنحن لسنا بمعزل عن العالم، فكل العالم يُخرِج تراثه وآثاره فى معارض خارجية، فهى تخرِج جزءا من كل، تقدِّم للآخرين رؤية مبسَّطة تجذبهم بها وتشوّقهم لرؤية الكل.
وحينما كنت مديرا عاما للمتحف المصرى (2001- 2004) وفى ذات الوقت مشرفا على لجنة المعارض الخارجية، نظّمت عدة معارض خارجية، وأجريت إحصائيات عقب كل معرض، فاكتشفت أن الدولة التى تستضيف المعرض تزيد سياحة أفرادها إلى مصر فى العام التالى مباشرة ما بين 15-30%، إذن فهذه المعارض دعاية، فضلا عن أشياء اخرى تعد مكاسب مباشرة وغير مباشرة، من عمليات ترميم للآثار المسافرة، كتالوج ونشر علمى، ترديد اسم مصر دوما، مُرافق لديه خبرة ويكتسب المزيد، مقابل مادى، تصنع “حالة” مصرية عامة، وتكون قريبا من العالم ثقافيا وعلميا، فى الخارج يقيمون معارض بآثارنا، فمن باب أولى أن أقيمها أنا ولدى الزخم الحضارى كله.
والنقطة المهمة جدا أن المعرض الخارجى نقطة قوة دبلوماسية “القوى الناعمة”، مثلا: حينما كنت مسئولا عن المتحف المصرى، كان هناك معرض خارجى إلى سويسرا، فى أعقاب حادث الدير البحرى 1997 حيث توقفت السياحة السويسرية، وسفيرنا فى سويسرا أخبرهم بتنظيم معرض لعمل تصالح وعودة السياحة السويسرية، ونجح الهدف دون تدخل دول أخرى للمصالحة.
مثل آخر: خلال توليتى الوزارة كان هناك تمويل يابانى لمركب خوفو الثانية على وشك التوقف، فأبلغني “يوشومورا” أستاذ الاثار أن استمرار التمويل ممكن من خلال عمل معرض يُعرِّف اليابانيين بأهمية ذلك، فأقمنا معرض “عصر بناة الأهرام”، ونجحت الفكرة وجاء التمويل 40 مليون دولار، ويتم ترميم المركب به حتى اليوم.
فهذه المعارض تقدم نماذج لآثار بسيطة، ولكن هناك آثار لا يمكن خروجها مثل: خفرع، التابوت الذهبى، قناع توت عنخ آمون، وهكذا.
الاختلافات النظرية
*ومن أين يأتى اختلاف النظريات المفسِّرة للأحداث والآثار؟
** بالنسبة للمتخصصين فكل واحد له نظريته مستندا إلى بعض الأدلة الأثرية، وليس من واقع الهوى وغير متخصص، فالأرض لما تُخرِج كل ما فيها بعد، أنا لدى جزء من الأدلة، وزميلى لديه جزء آخر، نحن الاثنين صح حتى يخرج لنا دليل قاطع.
مثلا: الملك مينا موحِّد القطرين، هذا لقب بمعنى “المُثَبِّت”، ولُقِّب به الملك الذي وحَّد القطرين، فمن هو؟ هل هو “نَعَرْمَر” أم “حور عحا”؟ فهذه من الأمور التى يمكن أن يختلف عليها المتخصصون.
التفسير الدينى
*هل يمكن ربط بعض النظريات بتفسيرات دينية بما ورد فى القرآن مثلا وقصة فرعون موسى؟
** قد تتطابق ولكن الدين كامل، والآثار لما تُخرِج بعد كل ما لديها، إذن لا يصح أن نُقرن كاملا بناقص، والكامل حتى نسترشد به يجب أن يكون لدى الدليل القاطع فى تفسيره.
مثلا: أنا لدى رؤية عن فرعون موسى، وحاليا أضعها فى كتاب “فرعون والخروج” لكن لا أستطيع فرضها كرأى، نظرا لوجود الاختلافات، فهناك من يقول بأنه: رمسيس الثانى، الملك مرنبتاح، أو هناك فرعون ميلاد وآخر فرعون اضطهاد وخروج، أو احد ملوك الهكسوس، أو الشخصية الأسطورية أوزوريس، أو تحتمس الثالث بجبروته وقوَّته؟
وكلمة فرعون لقب أصلها “بِرْ عَا” بمعنى البيت العظيم،القصر، وكانت تُطلق على الملك اعتبارا من الأسرة 18 مثلما نقول: الباب العالى، البيت الأبيض، الكرملين، بمعنى الملك.
الملك والفرعون
*بعض التفسيرات الدينية كانت ترى أن “فرعون” هو الحاكم غير المصري، “ملك” للحاكم المصرى؟
** لا.. الاثنين بمعنى حاكم، لكن كلمة “فرعون بدأت مع الأسرة الـ 18 وقبلها كان لقب “الملك”، ولذا ففى قصة سيدنا يوسف- عليه السلام- وكان فى الأسرة الـ15 أو الـ16، “وقال الملك” فلم يكن لقب فرعون قد ظهر، وهذا من دقة وجمال القرآن، ولا يوجد لدينا دليل قاطع بمن هو الملك في عهد سيدنا يوسف، ولا فرعون الغريق.
أحفاد الفراعنة
*كلمة ونصيحة توجهها لأحفاد بُناة الحضارة الإنسانية العظيمة؟
** يجب على المؤسسات المصرية جميعا أن تتكاتف لبناء وتأهيل النشء، الأسرة، المدرسة، الجامعة، الإعلام، الثقافة، الشباب والرياضة، كلها تتكاتف لإعلاء الحضارة المصرية وتوصيلها للشباب والأجيال الجديدة، حتى يشعروا ويعيشوا حضارتهم وعَظَمَتها، حتى يعرف أنه صاحب أعظم حضارة فى العالم، وكيف أن العالم وقُوى الشر تتكالب عليه حتى لا يرفع رأسه، وهذا يجعله يُصمِّم ويصمد ويتحدى، فتصوّر الوضع بعد 2030 وبدء ارتفاع ونهوض الاقتصاد والتعليم والحياة المصرية كلها، كيف ستكون مصر؟ لابد يكون لديه يقين وأمل أكيد فى التقدم.
نرجو فقط أن يحمينا الله من أى تدخلات أو عقبات تعطّل هذه المسيرة.