للقيم والمبادئ أهميّة عظمى وأثر بالغ في حياة الأمم والشعوب، فهي تشكل المصدر الذي ينير درب الدولة، ويعكس درجة رقيّها وتحضّرها، وكلّما ارتقت الدول بقيمها ومبادئها دلّ ذلك على تطوّرها وازدهارها، ومن أعظم المبادئ تلك التي تنظم حياة الأفراد والمجتمع، وتحفظ للفرد كرامته وحريته، وتنشر الأمن والأمان والاستقرار، وتوفّر السعادة والحرية في المجالات المختلفة، ومن الضروري الالتزام بهذه المبادئ وحمايتها والتمسك بها، والعمل بها في مختلف المجالات.
إن الثبات على المبدأ في المواقف التي يكون فيها الحق هو الهدف، يعتبر من أسمى وأشرف الواجبات التي يجب على الدولة التمسك بها، ممّا يؤدّي إلى انتشار القيم والأخلاق.
وتعتبر المبادئ الإسلاميّة الخالدة بفضل خصائصها من أكمل وأفضل المبادئ، فهي الوحيدة التي تتناسب مع التكوين الخُلقي للإنسان السليم، وتجمع بين القيم الماديّة والروحيّة، وتوفّر لمن تمسّك بها السعادة في كل جوانب الحياة، كما وحقّقت من المنافع ما لم تقدر عليه غيرها من المبادئ.
عملت المبادئ الإسلامية على ظهور حضارةٍ عريقةٍ ومجدٍ وأخلاقٍ حميدةٍ وعلمٍ لا يقارن به علم من قلب الأمة العربية، ولقد مجّد القرآن الكريم المسلمين الثابتين والمستمسكين بمبادئهم الرفيعة؛ فالثبات على الحق والتمسك به من صفات المؤمنين الصادقين، قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ}، وقدوتنا في ذلك هو رسول الله فقد لاقى ما لاقى ومع ذلك كان أشد ثباتًا حتى بلغ رسالة ربه على أتم وجه.
فقد كان خيرُ مثال للإنسان الثابت على مبادئه؛ فقد ظل صامدًا أمام الإغراءات والعروض، لم ينثنِ ويتراجع أمام التحديات وأساليب التهديد والترهيب التي مارسها إزاءه المشركون؛ فلم يساوم قط في دينه، وهو في أحرج المواقف العصيبة في مكة وهو محاصر بدعوته، وأصحابه القلائل يُتخطفون ويُؤذون في الله أشد الإيذاء، وهم صابرون محتسبون، وكان يفاوض بلغة القوي؛ لأن نصرة الدين لا تعرف أنصاف الحلول، بل تحتاج إلى ثبات وصبر ومصابرة، وقد كان صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه مبدأ الثبات، كما في حديث سيدنا خَبّابِ بن الأرَتِّ رضي الله عنه قال: ((شَكَوْنا إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له في ظِلِّ الكَعْبَةِ فَقُلْنا: ألا تَسْتَنْصِرُ لنا؟ ألا تَدْعُو لَنا؟ فقالَ: قدْ كانَ مَن قَبْلَكُمْ، يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فيُحْفَرُ له في الأرْضِ، فيُجْعَلُ فيها، فيُجاءُ بالمِنْشارِ فيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، ويُمْشَطُ بأَمْشاطِ الحَدِيدِ، ما دُونَ لَحْمِهِ وعَظْمِهِ، فَما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، واللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هذا الأمْرُ، حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخافُ إلَّا اللَّهَ، والذِّئْبَ علَى غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ)) (صحيح البخاري).
فعلَّم أصحابَه والأمَّة بأسرها أن المصلح الناجح لا يرضخ لضغط الواقع ولا يتأثر بمطالب المتحمسين ليتزحزح عما يعتقده صوابا، وإذا فاوض أو طالب لم يرض بأنصاف الحلول لأن الحق كتلة واحدة.
إن ثبات الدعوة على الطريق الذي تسلكه للوصول إلى هدفها الرئيس وهو التمكين لدين الله في الأرض، أمر يستدعي الاستعلاء على الضغوط والتحديات، والاستعصاء على الإغراء والمساومة، وهو ما يلحظه المتأمل في مواقف النبي الشديدة الاستعصاء على الاستدراج والتنازل، مع أنه كان في أشد الحاجة إلى المساعدة والنصرة والتأييد لتخفيف الضغط على نفسه وأتباعه، إلا أنه لم يقبل التنازل عن شئ جراء عدم قبول كثير من الناس لدعوته بل كان ثابتاً على دينه ومبدئه، ولم يساوم أو يقبل أيّ تنازل على حساب ذلك، صابراً، ومحتسباً، وصامداً أمام المُغرَيات، والتحدّيات التي واجهها.
ولقد وردت آيات كثيرة تتحدّث عن تثبيت الله للرسول، فتثبيت الله له دائم غير منقطع مهما حرص المشركون على إغرائه، وصَدّه عن دينه؛ لأنّه على الحقّ، والله معه يعصمه من أذى الكفّار النفسيّ، والمادّي مهما كَبُر، ومنها: قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا}. وقوله: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيكَ مِن أَنباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ في هـذِهِ الحَقُّ وَمَوعِظَةٌ وَذِكرى لِلمُؤمِنينَ}. وأيضًا: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا}.
وما أحوَجنا اليوم إلى التمسّك بالدين، والثبات على المبدأ، والتفاني في نصرة الحقّ.