يعد تحويل القبلة –الذي كانت في شهر شعبان – حدثًا فارقًا في تاريخ الإسلام، ولهذا تناوله العلماء والمفسرون بمزيد من الشرح والبيان، وكان من بينهم سلطان المتكلمين ، علامة المعقول والمنقول؛ الإمام الفخر الرازي في كتابه الموسوم بـ(مفاتيح الغيب) حيث أبان -بقراءة مستنبطة- أن هذا الحدث يحمل من المعاني والدروس ما يأخذ بيد الأمة إلى طريق الرشاد في الجوانب النفسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتربوية والسياسية لمن ألقى السمع وهو شهيد، فهو يبرز هذه الجوانب بحس الصوفي، وبراعة المتكلم، وتدقيق الفقيه الأصولي، وحرارة المفسر؛لأن (مفاتيح الغيب) يعتبر موسوعة علمية متخصصة في مجال التفاسير العقلية للقرآن الذي يمثل ذروة المحاولة العقلية لفهم القرآن، بل هو مستودع ضخم للتوجيهات العقلية والأقوال النظرية في التفسير!
ربما لا يسع هذا المقال لإبراز هذه الجوانب جميعًا، ولهذا تراه يورد فقط جماليات الحس الصوفي، وبراعة التأصيل الكلامي. فأنتتراه صوفيًا خالصًا، يفسر بإشارات أرباب السلوك والصفاء، دون شطح ؛ وكأنه إمامهم؛ ذلك لما ذكر حِكَمًا من تعيين القبلة في الصلاة: بأن الله قد حول القبلة لأجل حبيبه محمد على جهة التحقيق، ليصل به إلى أعلى مقامات التكريم، (فلنوَلينَّك قبلة تَرْضَاها) ولم يقل (قبلة أرضاها)، والإشارة فيه كأنه تعالى قال: يا محمد كل أحد يطلب رضاي وأنا أطلب رضاك في الدارين (الدنيا والآخرة)، وفيه فرق بين مقام الرضا وبساط تمني الرضا. ومن ذلك أيضًا :أن الله قد خص الكعبة بإضافتها إليه في قوله (وطهِّر بيتي)، وخص المؤمنين بإضافتهم بصفة العبودية إليه (يا عبادي)، وكلتا الإضافتين للتكريم والتخصيص؛ فكأنه – جل شأنه – قال: يا مؤمن أنت عبدى، والكعبة بيتي، والصلاة خدمتي، فأقبل بوجهك في خدمتي إلى بيتي وبقلبك إليَّ وحدي. وإن كان قد ثبت أن الكعبة خلقت من جبال خمسة؛ كانت الإشارة فيه كأن الله تعالى يقول: إن كانت عليك ذنوب بمثقال هذه الجبال فأتيت الكعبة حاجًا أو توجهت نحوها مصليًّا كفرتها عنك وغفرتها لك؛ ولأن المقصود من الصلاة حضور القلب، والحضورلايحصل إلا بالسكون، وترك الالتفات والحركة، وهذا لا يتأتى إلا باستقبال جهة واحدة على التعيين والمؤمنون استقبلوا الكعبة لأنها قبلة خليل الله، ومولد حبيب الله، وهي موضع حرم الله، وكأن بعضهم يقول: استقبلت النصارى مطلع الأنوار، وقد استقبلنا مطلع سيد الأنوار، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، فمن نوره خلقت الأنوار جميعا!
ثم تراه- وهو الإمام المتكلم- يرد على شبهات متكلمي المعتزلة في مسائل متعددة؛ أذكر منها ثلاثًا فقط: الأولى: مسألة (تعليل الأحكام) في قوله تعالى: (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ)، فيفندها؛ ليقرر في النهاية مذهب أهل السنة بما نصه: فثبت عندنا بهذه الوجوه أفعال الله بالدواعي والأغراض محال (أي لا نقول بالتعليل)، وإن كان كذلك كانت فاعليته بمحض الإلهية والقدرة والنفاذ والاستيلاء . والثانية: قضية (الهداية) في قوله تعالى: (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)، موضحًا أن المراد منها: الدعوة أو الدلالة أو تحصيل العلم فيه، وأن الأولين باطلان لأنهما عامان لجميع المكلفين؛ فوجب حمله على الوجه الثالث؛ وذلك يقتضي بأن الهداية والإضلال من الله تعالى. والثالثة: قضية (خلق الأفعال) وأنها من جهة الله، في قوله تعالى (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً…)، حين دلت على أن عدالة هذه الأمة وخيرتهم بجعل الله وخلقه خلافًا للمعتزلة الذين جعلوها (ألطافًا) من الله فقط ! ولهذا وجبت الإشارة إلى هذا الإمام الكبير وكتابه القدير.