بعد نهاية الحرب العالمية الثانية انطلق الكثير من المحللين والمؤرخين في تقديم توقعاتهم المستقبلية للدول التي تعرضت للهزيمة خلال تلك الحرب وكانت اليابان بصفتها الخاسر الأكبر في تلك الحرب واحدة من الدول التي توقع لها هؤلاء المحللين مستقبلاً مظلماً لكن كانت المفاجأة أن اليابان نهضت من جديد وبسرعة لم يتخيلها أكثر المحللين تفاؤلاً فما السبب في تلك النهضة السريعة.
يقول اليابانيون أن التكاتف الذي شهدته اليابان بين الدولة والمواطن الياباني هو السبب الأهم في تحقيق تلك المعادلة فقد سارع اليابانيون المواطنون إلى التأكيد على تحملهم كافة الإجراءات التي اتخذتها الدولة وذهب البعض منهم إلى التأكيد على أهمية تنشئة الجيل الياباني الجديد على تحمل الصعاب والنظر باحترام لكل ما تتخذه الدولة من قرارات وإجراءات مهما بلغت صعوبتها وكان لذلك أبلغ الأثر في سرعة رفع أنقاض الهزيمة القاسية وبدء مرحلة بناء جديدة في اليابان.
المقدمة السابقة كانت مهمة للتأكيد على أهمية العلاقة التكاملية بين المواطن والدولة بعد أن حاول البعض في الفترات السابقة تحويل تلك العلاقة إلى علاقة خصومة بين الطرفين وهو ما عبر عنه الرئيس عبدالفتاح السيسي في أحد لقاءاته مؤكداً على خطورة تحويل العلاقة بين الدولة والمواطن إلى علاقة خصومة.
“عقيدتي” تحاول من خلال التحقيق التالي توضيح الصورة التي يجب أن تكون عليها تلك العلاقة في سبيل بناء مجتمع قوي بأفراده وهيئاته المختلفة:
يقول د. محمد الشحات الجندي- عضو مجمع البحوث الإسلامية، والأمين العام الأسبق للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية- أن علاقة المواطن بالدولة علاقة تكاملية وليست علاقة تضاد فلا يمكن أن تكون الدولة خصم للمواطن وإلا ساد مفهوم الندية وهو ما يفقد الوطن أهم أسسه وهو ولاء وانتماء المواطن لهذا الوطن وقيام الدولة بحماية هذا الولاء وتوفير مقومات المواطنة للمواطن بالتالي والمعروف أن مفهوم المواطنة هو تعبير عن الولاء والانتماء، وهنا يجب ألا يكون هذا الانتماء هشًّا، بل يجب أن يقوم على مشاعر تعبر عن الولاء، إذ الانتماء والولاء إذا خلا من المصداقية القائمة على الوعي والثقافة والممارسة، فإنه يبقى بعيدا عن تحقيق المواطنة الرشيدة الكفيلة بتعزيز التنمية في المجتمع في مختلف نطاق تفاعلاته.
العلاقة التكاملية
وأضاف د. الجندي: تاريخنا الإسلامي يضم واحدة من أبرز الأسس والوثائق التي توضح العلاقة التكاملية الوثيقة بين المواطن والدولة وهي وثيقة المدينة ذلك الدستور الذي وضع أساساً جديدا لحق المواطنة، لا يقوم على قرابة الدم أو صلة العقيدة، وإنما يتكون حق المواطنة فيه من عنصرين كلاهما إيجابي، فأما العنصر الأول، فهو الانتماء إلى الإقليم، وأما العنصر الثاني، فهو الوفاء بالالتزام.
كذلك لنا فيما قاله رسول الله عند خروجه من مكة مهاجراً للمدينة المنورة دليل على علاقة الإنسان بوطنه حينما قال: “والله إنك لأحب أرض الله إلي، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجونى منك قهرًا ما خرجت”، وفى رواية أخرى أنه قال: “اللهم إنك تعلم أنهم أخرجونى من أحب البلاد إلى، فأسكنى أحب البلاد إليك”، ويقول كتاب “الهجرة إلى المدينة المنورة”، مهما تختلف الروايات، فإنها كلها مجمعة على أنه كان وداعًا حارًا، يقطر حبًا وحنانًا إلى هذا الوطن الحبيب، ويفيض حسرة وأسى على فراقه كذلك فإن من مستلزمات الفهم الصحيح للعلاقة بين الدولة والمواطن أنَّها علاقة تكامليَّة، فبقدر ما يقدم المواطن ويخلص من أجل وطنه، يستفيد من خيراته، ويحقّق معاني السعادة فوق أرضه، ومن مستلزمات هذا الفهم الوعي بأمن الوطن واستقراره، والعمل على تنميته والازدهار به وبأبنائه، وتكامل الأدوار بين الكل مهم بحيث لا يكون طرف خصماً للطرف الأخر وذلك بقيام كلّ فرد وكل مؤسسة بالدور المنوط به على أتم وأكمل وجه، وكذلك تقوية جبهته الداخلية، بقوَّة العلاقات بين أبنائه جعل الله -عز وجلّ- حماية الأوطان والدفاع عنها جهاداً في سبيله، فقال في كتابه العزيز {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ}.
جزء من كل
ويقول الشيخ محمد زكي البداري- أمين عام اللجنة العالمية للدعوة الإسلامية-: الإسلام نظر لعلاقة الفرد بالدولة كجزء من كل بحيث يعي الإنسان أنه جزء من الدولة وجزء من المجتمع يعطي مجتمعه ويأخذ منه فعظمة الدين الإسلامي تكمن في أنك لن تجد بأي حال من الأحوال انفصالا بين مسؤولية الفرد نجو الدولة ومسؤولية الدولة نحو الفرد فالعلاقة تكاملية وكلا المسؤوليتين الفردية والمجتمعية هما أهم سبل الإصلاح المجتمعي وبناء دولة قوية أمنة ومستقرة، وقد ضرب الإسلام مثلا رائعا لوصاية الجماعة على الفرد ومسؤوليتها إزاء جناياته وأخطائه، فقال رسول الله: «إن قوما ركبوا سفينة فاقتسموا فصار لكل منهم موضع، فنقر رجل منهم موضعه بفاس فقالوا له: «ما تصنع؟» قال : «هو مكاني أصنع فيه ما أشاء. فإن أخذوا على يده نجا ونجوا معه وإن تركوه هلك وهلكوا» فمسؤولية الفرد نحو نفسه قد تتسع بحيث تصبح مسؤولية نحو مجتمعه، كما أن مسؤوليته نحو المجتمع قد تضيق بحيث تكون أيضا مسؤولية نحو شخصه بالذات. فطلب العلم وإن كان الفرد مسؤولا عنه لنفسه لما وراءه من مصلحة شخصية، إلا أنه أيضا مسؤول عنه تجاه مجتمعه لأن من مصلحة هذا المجتمع أن يكون الفرد فيه متعلما لا جاهلا والتعاون مع المجتمع وإن كان الفرد مسؤولا عنه اجتماعيا، إلا أنه أيضا مسؤول عنه لنفسه بالذات لما يترتب على تعاونه مع أبناء مجتمعه من حمل أبناء مجتمعه أيضا على التعاون معه.
فلسفة اجتماعية
من جانبها تقول د. هدى عبدالحميد- أستاذ الفقه بجامعة الأزهر-: فلسفة الإسلام الاجتماعية تهدف إلى إقامة المجتمع السعيد والعمل على توفير أسباب السعادة والاستقرار لجميع الناس على السواء، فلا يصح من الناحية المنهجية أن يقال أن الإسلام يدعو إلى تحسين العلاقات بين المسلم والمسلم فقط، ويجعل المسلم مسؤولا عن مصلحة إخوانه في الدين فحسب ويؤيد هذا ما ذهب إليه رسول الله في تعريف المسلم بقوله: «المسلم من سلم الناس من لسانه ويده»، إذ جعل مسؤولية الفرد المسلم منعكسة على جميع أفراد المجتمع فيجب أن يكون حاضرا في الذهن، أن تحمل المسؤولية تجاه الآخرين من أبناء المجتمع كإحسان معاملتهم مثلا، ومنع الأذى عنهم، وبذل الخير لهم والتعاون مع الدولة من أجل تحقيق هذا الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي حفاظاً على أركان الوطن.
تضيف: يجب كذلك أن يكون الفرد عنصرا منتجا بالنسبة للمجتمع بحيث ينبغي أن يكون بالنسبة للدولة التي تحميه وتصون مصالحه وأغراضه وحاجاته فلا يجوز مطلقا أن يستبيح أموالها بغير حق ولا شرعه، كما لا يجوز البتة أن يهدر مصالحها وأموالها ومراكز إداراتها، ولا أن يسمح لأحد بذلك، ولو كلفه ماله كله وحياته أن اقتضى الأمر، فكل فرد في أي مجتمع كان، دعامة هامة بالنسبة إليه، لا يستهان به مطلقا، بل يجب أن يعتني به العناية الفائقة، بحيث يمكنه ذلك من القيام بواجبه على الوجه الأكمل.
وقد نجح الإسلام في تثبيت هذه المسؤولية في نفس الأفراد من الصحابة والتابعين، وكان من آثارهم الأمثال النادرة في صلاح المجتمع بأكمله.
منطق الخصومة
أما د. رضا عريضة- أستاذ علم النفس بجامعة حلوان- فيقول من جانبه: هيمنة منطق الخصومة والتنابذ والإحلال على منطق التكامل وتقاسم العمل إحدى سمات المجتمعات غير المتحضرة وتتعارض مع قواعد العقل والمنطق والطبيعة، وهذا المنطق والعقلية من محلفات مجتمعات ما قبل الدولة حيث كانت تسود حرب الجميع ضد الجميع بسبب تغليب المصلحة الشخصية على المصلحة العامة، اما بعد قيام الدول والسلطة الواحدة وسن القوانين والاحتكام لها وتوافق المكونات المجتمعية على قواسم مشتركة تشكل ما يسمى المصلحة العامة أو الوطنية تم تغليب منطق وعقلية التكامل والتعاضد بين أشخاص ومؤسسات يقومون بوظائف مختلفة لخدمة الصالح العام، وتسمى أحياناً “الوحدة في ظل الاختلاف”.
يضيف: لابد ان يعي الفرد أن تعريف العلاقة بين المواطن والدولة وفقاً للتعريفات المنضبطة هي علاقة تبادُليّة بين الفرد، والدولة، والمُجتمع؛ فيقوم المُواطن بواجباته تجاه الدولة والمُجتمع لتُقابله الدولة بمنحه الحقوق تحت مظلّة القانون في إطار دولة لها دستور تُشرّع فيه القوانين والأنظمة التي يقوم عليها أساس الدولة وبالتالي هي علاقة تكاملية ولابد من وأد محاولات البعض لهدم تلك العلاقة أو تحويلها لعلاقة خصومة لان ذلك الأمر يؤدي بالتالي إلى نشر الاضطراب النفسي في نفوس الأفراد ما يؤدي بالتالي لهز الثقة بين المواطن والدولة بما ينعكس بالسلب على كل جهود الدولة لتحقيق الاستقرار بكل أنماطه وأشكاله.