إن التوفيق للعمل الصالح نعمة كبرى، ولكنها لا تتم إلا بنعمة أخرى أعظم منها، وهي نعمة القبول.
ولو أدرك كل منا أن كثيراً من أعمالنا الصالحة ترد علينا لأسباب كثيرة لصار أهم ما يشغلنا هو معرفة كيف تقبل أعمالنا، وكيف الثبات والاستمرار على الأعمال الصالحة؟
إن من أهم أسباب قبول العمل، عدم الرجوع إلى الذنب بعد الطاعة، فإن الرجوع إلى الذنب علامة مقت وخسران، قال يحي بن معاذ: “من استغفر بلسانه وقلبه على المعصية معقود، وعزمه أن يرجع إلى المعصية بعد الشهر ويعود، فصومه عليه مردود، وباب القبول في وجهه مسدود “.
والمؤمن مع شدة إقباله على الطاعات، والتقرب إلى الله بأنواع القربات؛ إلا أنه مشفق على نفسه أشد الإشفاق، يخشى أن يُحرم من القبول لخوفه أن يكون قد قصَّر في القيام بشروط الإعطاء، وهذا من باب الإشفاق والاحتياط .
لذا فإن وجل العالِم من طاعته أكثر من وجله من مخالفته؛ لأنه يعلم أن المخالفة تمحوها التوبة .
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ* وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ* وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ* أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}.
والسيدة عائشة رضي الله عنها قالت: ((سألتُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ عن هذِهِ الآيةِ {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} قالت: أَهُمُ الَّذينَ يشربونَ الخمرَ ويسرِقونَ؟ قالَ: لا يا بنتَ الصِّدِّيقِ، ولَكِنَّهمُ الَّذينَ يصومونَ ويصلُّونَ ويتصدَّقونَ، وَهُم يخافونَ أن لا تُقبَلَ منهُم أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)).
ورجاء قبول العمل مع الخوف من رده يورث الإنسان تواضعاً وخشوعاً لله تعالى، فيزيد إيمانه ويتوجه إلى الله عز وجل رافعا يديه سائلاً قبول عمله؛ فإنه وحده القادر على ذلك، وهذا ما فعله سيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل عليهما السلام، قال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
ثم التوفيق إلى أعمال صالحة بعد الطاعة، فعلامة قبول الطاعة أن يوفق العبد لطاعة بعدها، وإن من علامات قبول الحسنة فعل الحسنة بعدها، وهذا من رحمة الله وفضله؛ أنه يكرم عبده إذا فعل حسنة، وأخلص فيها لله أنه يفتح له باباً إلى حسنة أخرى؛ ليزيده منه قرباً.
قال الحسن البصري: إن من جزاء الحسنة الحسنة بعدها، ومن عقوبة السيئة السيئةُ بعدها، فإذا قبل الله العبد فإنه يوفقه إلى الطاعة، ويصرفه عن المعصية.!
فالعمل الصالح شجرة طيبة، تحتاج إلى سقاية ورعاية، حتى تنمو وتثبت، وتؤتي ثمارها، وإن أهم قضية نحتاجها أن نتعاهد أعمالنا الصالحة التي كنا نعملها، فنحافظ عليها، ونزيد عليها شيئاً فشيئاً.
وكذلك من علامات قبول أعمالنا الصالحة أن يحبب الله في قلوبنا الطاعة، فنحبها ونأنس بها ونطمئن إليها قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.
إن من صفات المخلصين أنهم يستصغرون أعمالهم، ولا يرونها شيئاً، حتى لا يعجبوا بها، ولا يصيبهم الغرور فيحبط أجرهم، ومما يعين على استصغار العمل معرفة الله تعالى، ورؤية نعمه، وتذكر الذنوب والتقصير.
وكان هدي النبي المداومة على الأعمال الصالحة، فعن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: ((كانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ إذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ)).
فأحب الأعمال إلى الله وإلى رسوله أدومها وإن قلَّت قال رسول الله: “أَحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ أدْومُها وإن قَلَّ“.
ولقد بشَّر رسول الله من داوم على عمل صالح، ثم انقطع عنه بسبب مرض أو سفر أو نوم أن أجر ذلك العمل قد كتب له، فقال: ((إذَا مَرِضَ العَبدُ أو سَافَرَ كَتَبَ اللهُ تَعالى لهُ مِنَ الأَجْرِ مِثلَ مَا كانَ يَعمَلُ صَحِيحًا مُقِيمًا))، و هذا في حق من كان يعمل طاعة فطرأ عليه طارئ يمنعه من أدائها، وكانت نيته أن يداوم عليها. وقال: ((ما من امرئٍ تكونُ لهُ صلاةٌ بليلٍ يَغْلِبُهُ عليها نومٌ إلا كَتَبَ اللهُ لهُ أجرَ صلاتِهِ وكان نومُهُ عليهِ صدقةً)).
اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكرَّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.