عندما نقرأ السيرة النبوية وأحداثها في العهد المكِّي نجد رابطًا قويًّا يربط بينها برباط وثيق، هذا الرابط يدور حول القضية الكبرى وهي ترسيخ وتعميق الإيمان بالله وقُدرته الإلهية .
فحادثة الإسراء والمعراج ترتبط بطلاقة القُدرة الإلهية والإيمان بها، لأن خرق النواميس الكونية وما هو مُستغرب منها بمقاييس الخَلْق ليس غريبًا ولا مُستغربًا بالنظر إلى قُدرة الخالق. والدرس الأهم فيما أرى في تحويل القِبلة هو اختبار مدى قُوّة وصلابة إيمان المؤمنين، وهشاشة إيمان غيرهم، حيث يقول سبحانه: “وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ” (البقرة: 143).
وقد فسَّر بعض المفسّرين الإيمان هنا بالصلاة، لأن الصلاة إلى بيت المقدس إنما كانت ناتج إيمانهم واستجابتهم للقِبلة التي أُمروا بالتوجّه إليها، فلما أُمروا بالتحوّل عنها كان هذا الإيمان نفسه هو سبيل سرعة الاستجابة دون نقاش أو تردّد .
القضية الكبرى إذن هي قضية الإيمان بالله، حيث يقول سبحانه: “لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ” (البقرة: 177).
والإيمان بالله قضية غير قابلة للتجزئة، فلا يُجزئ أن تقول أومن بالله لكن في قلبي شئ من اليوم الآخر، أو من مهام الرسل، أو من مهام الملائكة، أو الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ونلاحظ هنا إفراد الكتاب مع جمعه في مواضع أخرى، ذلك أن الأمر في تحويل القِبلة مرتبط بما أنزل على نبينا دون سواه، أما مواضع الجمع فهي في مطلق الإيمان بالكتب السماوية .
إن الإيمان بالله هو المحرِّك الرئيس للعمل، حيث يتفرّع عنه إنفاق المال في سبيل الله، كما يتفرّع عنه المواظبة على الصلاة وإيتاء الزكاة، فبلا إيمان راسخ لا يمكن الإتيان بهذين الركنين على الوجه الأكمل الأتم، حيث يقول (صلى الله عليه وسلم): “والصَّدَقَةُ بُرْهانٌ” (صحيح مسلم)، أي برهان على صدق إيمان صاحبها الذي ينفق المحسوس إيمانًا منه بالثواب الأخروي والبركة الدنيوية لمن يستجيب لأوامر الله.
وكذلك يتفرّع عن الإيمان الحرص على الوفاء بالعهد والصبر في البأساء والضراء وحين البأس، ومن ثمَّ كان علينا أن نجعل من ترسيخ قضية الإيمان بالخالق وبيان عظمة قُدرته أساسًا راسخًا ننطلق منه في الحثّ على اتّباع الأوامر واجتناب النواهي، مُدركين أن بعض هذه الأوامر والنواهي محض اختبار إلهي لقوانا الإيمانية.