مدرس أصول الفقه بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بالقليوبية
إن الحمد لله نحمده ونستعين به ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن سيدنا محمدا عبده ورسوله – صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا- وبعد ………..
من المتعارف عليه والمؤلوف بين أهل العلم هو الكتابة عن فضل الوالدين وعدم عقوقهما ؛ لأن عقوق الوالدين قد حرمته الشريعة الإسلامية بنص الكتاب والسنة والإجماع ، وهذا الأمر لاجدال فيه حيث قال الله تعالى في كتابه العزير ” وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ” وعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: «أُمُّكَ» , قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «أُمُّكَ» , قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «أُمُّكَ» , قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «أَبُوكَ».
فهذا يدل على وجوب طاعة الوالدين ومعاملتهما معاملة حسنة كما أمرنا الله عز وجل ورسوله – صلى الله عليه وسلم – بذلك .
أما ما استجد في هذه الآونة الأخيرة هو ” عقوق الأبناء ” وخاصة عقوق الأب لأبنائه ، ففي هذا العصر الذي نعيش فيه استحدث هذا الأمر المؤلم والمؤسف والمزعج فلوحظ أن الأب يقسو على أبنائه ويعاملهم معاملة سيئة ويتمنى زوال النعمة عنهم بل ويتمادى في عقوق أبنائه فيفرق بينهم فيعطي هذا ويحرم ذاك .
وهذا الشيء يجعل القلوب تعتصر من الحزن والأسى ؛ لأنه على غير الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، فقد فطرنا الله عز وجل على محبة أبنائنا ورعايتهم ومعاملتهم معاملة حسنة كريمة ترتفع بها نفسية الأبناء إلى درجة عالية من الثقة والطمأنينة والآمان ، بل ولا أبالغ عندما أقول أن الأب هو السند الحقيقي والوحيد لأبنائه في الدنيا بعد الله عزوجل .
وإذا وصل بنا الأمر إلى هذا الحال من معاملة الأب لأبنائه معاملة سيئة وتجاهل لوجودهم أو القسوة عليهم ، فمن يحنو عليهم ويرعاهم غيره ، ومن يكون داعما لهم في هذه الحياة المليئة بالأعباء والمتاعب ومن … ومن …ومن ….. ؟؟؟؟ !!!!!!!!!!
وعقوق الأب لأبنائه له صور عديدة من أهمها مايلي :
أولًا : اختيار الأب منذ البداية للأم ، فقد يختار الأب لأولاده أما ليست جديرة بأن تكون أمًا لأبنائه ، فيختارها اختيارًا عشوائيا دون التدبر في أمر تربيتها ودينها ، فعَنْ أَبي هُرَيْرَة – رضي الله عنه – عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَلِجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ ” .
ثانيًا : تسمية الأب لأبنائه بأسماء غير لائقة قد تُعَرضهم للأذى النفسي والمعنوي بل وربما المادي أحيانا فيصير الأبناء منبوذين بين أفراد المجتمع بسبب هذه الأسماء وقد نهى النبي – صلى الله عليه وسلم – عن ذلك في عدة أحاديث منها قوله صلى الله عليه و سلم :
” من ولد له ولد فليحسن اسمه و أدبه فإذا بلغ فليزوجه فإن بلغ و لم يزوجه فأصاب إثما فإنما إثمه على أبيه ” ، وقوله صلى الله عليه و سلم ” إن أحب أسمائكم إلى الله عبدالله وعبدالرحمن
” وقوله أيضا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” لَا تُسَمِّ غُلامَكَ يَسَارًا، وَلا رَبَاحًا، وَلا نَجَاحًا، وَلا أَفْلَحَ، فَإِنَّكَ تَقُولُ: ثَمَّ هُوَ؟ فَلا يَكُونُ، فَيَقُولُ: لَا “.
ثالثا : قد تموت الأم وتنتقل إلى الرفيق الأعلى ويتزوج الأب زوجة أخرى لكي ترعاه وترعى أبنائه وتكون أمنا وأمانا للأسرة كلها ، ولكن !!!!!!!!!! يحدث مالم يكن متوقعا ، فيهتم الأب بهذه الزوجة وأبناءها ويفضلهم على أبنائه .
رابعا : عدم الوفاء بالحقوق الشرعية في الرعاية والتربية وتنشئة الأبناء ، وهذا على خلاف ماأمرنا الله به في كتابه العزيز حيث قال تعالى ” وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ” وقال تعالى ” وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ”
فالأيات القرآنية بينت للأب مايجب عليه تجاه ولده منذ أن كان جنينا في بطن أمه .
خامسا : التفرقة بين الأبناء في المعاملة ، فمن الأخطاء الجسيمة والشائعة التي يقع فيها كثير من الأباء تجاه أبناءهم ، أن يفرق الأب بين الأبناء في المعاملة فنجد الأب قد يفيض شوقا وحنانا واهتماما ورعاية لأحد أبنائه بينما يفيض قسوة وإهمالا وعقوقا لأبنائه الأخرين ، بل والأشد من هذا وذاك أننا نجد الأب أحيانا يدعو على أبنائه ويعاملهم معاملة سيئة في مقابل أنه يعامل أحدهم معاملة طيبة ويدعو له بكل خير وبركة وهذا الفعل ذنب عظيم منهي عنه في الشريعة الإسلامية فقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم – ” لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على أموالكم لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم ”
ومن صور عدم العدل بين الأبناء أيضا : أن هناك بعض الأباء يفرقون بين أبناءهم في الأمور المادية فيعطي ابنا ويحرم آخر ، وقد نهى النبي – صلى الله عليه وسلم – عن ذلك ، وأمر بالمساواة بين الأبناء في كل شيء حتى في القُبلة التي يُقَبلها الرجل لأبنائه فيجب عليه أن يعدل فيها حتى يتجنب الضرر النفسي الذي يقع على الأبناء بسبب هذه التفرقة ومما يدل على ذلك الحديث التالي :
قَالَ: النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، إِنَّ أَبِي بَشِيرًا وَهَبَ لِي هِبَةً، فَقَالَتْ أُمِّي: أَشْهِدْ عَلَيْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَ بِيَدِي، فَانْطَلَقَ بِي حَتَّى أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمَّ هَذَا الْغُلَامِ سَأَلَتْنِي أَنْ أَهَبَ لَهُ هِبَةً، فَوَهَبْتُهَا لَهُ، فَقَالَتْ: أَشْهِدْ عَلَيْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَيْتُكَ لِأُشْهِدَكَ، فَقَالَ: «رُوَيْدَكَ، أَلَكَ وَلَدٌ غَيْرُهُ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «كُلُّهُمْ أَعْطَيْتَهُ كَمَا أَعْطَيْتَهُ؟» قَالَ: لَا. قَالَ: «فَلَا تُشْهِدْنِي إِذًا، إِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ، إِنَّ لِبَنِيكَ عَلَيْكَ مِنَ الْحَقِّ أَنْ تَعْدِلَ بَيْنَهُمْ»
وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم – “كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول”
فإذا فعل الأب ذلك وفرق بين أبنائه فيكون بذلك قد ارتكب إثما وذنبا عظيما بالإضافة إلى أنه ضيع أولاده وترك لهم الغل والحقد والكره بسبب تفرقته بينهم .
وقال النبي – صلى الله عليه وسلم – ” ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالأمير الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ”
فالراعي يجب عليه أن يعدل بين الرعية وأن يوفر لهم الأمن والراحة والهدوء والسلام النفسي ؛ لأنه لو لم يلتزم بما جاءت به النصوص الشرعية لساد الظلم والتفرق والتشتت بين أفراد المجتمع ، فكذلك الأب الذي لايعدل بين أبنائه تسود بينهم الكراهية والحقد وتنعدم المودة والرحمة بينهم .
فإذا كانت كل هذه الأيات القرأنية والأحاديث النبوية الشريفة تتحدث عن علاقة الأب بأبنائه وعن الحقوق والواجبات الشرعية التي تجب للأبناء على أباءهم ، فكيف يتخلى الأب عن أبنائه وكيف يقسو عليهم ويعاملهم معاملة سيئة ، هل تجرد من مشاعر الأبوة ؟ أم هل تخلى عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها ؟ هل نسي الأب أنه سيسئل عن أبنائه أمام الله كما سيسئلون عنه ؟
والإمام البخاري – رحمه الله تعالى – بوب بابا في كتابه الأدب المفرد سماه ” باب أدب الوالد وبره لولده ”
فإذا كانت كل هذه النصوص الشرعية تأمرنا بمراعاة حقوق الأبناء والحفاظ عليهم وتنهانا عن التعدي عليهم وحرمانهم من حقوقهم ، فلما الوقوع في المحظور وكيف نترك ماأمرنا الله به ونفعل مانهانا الله عنه .
هداني الله وإياكم لما يحب ويرضى وجعلنا جميعا من البارين بأبائنا وأمهاتنا وأبنائنا
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته