كانت الهجرة النبوية الشريفة إيذاناً من الله تعالي لرسوله الخاتم بالتمدُّد في دعوته وإذنًا منه سبحانه للتحوُّل في مسار الدعوة والانتقال من الضعف إلى القوّة، ومن الاستضعاف إلى التمكين، ومن مجاورة باطلِ وحَسَدِ وحِقْدِ وظُلْمِ وتضييقِ أغلب قبائل قريش في مكّة المكرّمة الموجَّهين ضدّه وضدّ دعوته التي زعزعت ذلك الباطل- قبل أن تهدمه لاحقا- إلى واسع جوار عطاء ولِيْن ومحبّة ونصرة الأنصار له وحنوِّهم عليه واحتفائهم وفرحتهم به- صلى الله عليه وآله وسلم- في طِيْبَة، مدينة رسول الله المنورة، حيث أسَّس عاصمة الإسلام ومنارته واستقبلوه بـ”طلع البدر علينا”، وما أجمله من بدر طلع على الإنسانية كلها!
إنه الرسول محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب الهاشمي القُرشي، من ولد النبي إسماعيل وأبيه إبراهيم- عليهما السلام- إنه وحَقُّ اللهِ خيرُ من مشي على البسيطة.
وفي معالِم شخصية الرسول والرسالة، تجد الاثنين وَجْهَيْنِ مُكَمِّلَيْن لبعضهما البعض، فقد اختار الله تعالى للبشر رسالة سماوية خاتَمة خالِدة مُهيمنة على ما سبقها، صالحة لكل زمان ومكان، وشمل- سبحانه- في رسالته تلك جميع مقاصده وكل مطلوبه من بني آدم وضمنها خلاصة القصص والعِبَر وعظيم العظات، وشرَّع وحلَّل لهم وحرَّم عليهم وبيَّن غايته سبحانه من خَلْقهم وكلَّفهم لإقامة الحُجّة عليهم، وعندما يرسل الله رسالة خاتمة فإن ذلك يعني أن تلك الرسالة آخر بيان سماوي منه إلى عباده، يدعوهم إليه ويُمهلهم ويُفسح لهم، ولكن يحذِّرهم ويُنذرهم أيضا ألا تأخذهم آمالُهم أنهم مخلَّدون غير محاسَبين، بل هم عائدون راجعون إليه محاسَبون لديه، وأن المعنى الأوفي والأبلغ في خاتمية الرسالة أن القيامة قريبة، صغراهما ثم كبراهما، هذه الأخيرة التي تقوم علي شِرار الخَلْق والعياذ بالله، ولأنها الرسالة الإلهية الخاتمة بكل ما اشتملت عليه من ميراث الأنبياء في الأرض، ولأنها محيطة بكل ما قد سبقها، ولأنها تحمل التوحيد الذي هو أساس الدين كلّه، وتنذر وتحذِّر من الشِرك والكُفر والنفاق، وهو عمل إبليس عدو أبناء الإنسانية كلهم، الموجَّه ضدّهم لكي يعصوا ربَّهم كما عَصَاه هو من قبل، كما تحمل أيضا الوعد الإلهي الحتمي بأنه سيفرض- سبحانه- في نهاية الزمان العدل في الأرض بعد طول الفساد فيها، فالرسالة تحمل أسمى معاني الصدق والوفاء بالعهد والإخلاص في العبادة وإقرانها بالعمل والبناء لإعمار الكون، ودفع الظلم، ونصرة الضعيف، وإغاثة الملهوف، وحفظ النفس والأعراض، وهذا هو دين الله المصطفى، فكان لابد أن يصطفي إلى الدين المصطفَى، رسولَه النبي الهاشمي المصطفي، فرسالة عظيمة مثل هذه الرسالة، وثقيلة ثقل معدنها وعظم شأنها “إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا” (المزَّمِّل:5)، هي الطريق الأخير إلى حيث المقام الأخير للبشرية كلها، يجب أن يحملها ويبلِّغها رجلٌ له صفاتها، متمّاه معها، هو الرسالة والرسالة هو (كان قرآنا يمشي بين الناس)، فكان رسولها منذ أن خلق الله الخليقة، ينتظر ساعته وأوانه، في عالَم الذَرِّ، عند مليك مقتدر هو سبحانه قال فيه “وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ” (القلم:4)، “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ” (الأنبياء: 107).
انظر بقلبك أيّها المؤمن لترى عطاء الله لهذا النبي، وكيف قَرَن اللهُ الرسولَ بالرسالة، وجعلهما أمرا واحدا، أي: وما أرسلناك برسالتنا إلا رحمة بهؤلاء، فاعتناء الله سبحانه برسوله الخاتم، هو اعتناء برسالته الخاتمة، والعكس صحيح، هو مَدَحَه لأنه هو خالقه يعلم شأنه العظيم الذي خَلَقه من أجل شأن عظيم وما مدحه سبحانه إلا لأمرين، أوَّلهما: تثبيتا ودعما وتأييدا ونصرة واحتواء وتأكيداً لبني البشر علي مكانته عند الخالق جلَّ شأنه وإقامة للحجّة عليهم، وهو مستحِق لهذا الاحتفاء الإلهي، وأهلٌ لذلك، فهو المصطفى النهائي لتبليغ البشر منذ بعثته حتي قيام الساعة بالرسالة الإلهية النهائية. وثانيهما: أن الله تعالى
عَلِمَ سلفًا تقصير البشر المبلَّغ إليهم في مدحه والثناء عليه وعدم معرفتهم الحقّة بمكانته عند ربِّه، فكفاه بمدحه وأغناه بثنائه، وأقامه في مملكة محبَّته وملكوت رحمته ، من ذلك قوله سبحانه “إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا” (الأحزاب:56)، فصلاة الله وملائكته علي النبي، رحمة ومحبّة ومودّة من الربِّ وجنوده المقرّبين للمربوب المكلّف منه خصيصا بأهمِّ شأنٍ على الإطلاق، هو أيضا لسدِّ النقص الحادث من البشر في صلاتهم على هذا النبي، وأراد الله أن يُعلّمنا الدرس بنفسه سبحانه “وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ” (إبراهيم:25)، والصلاة صِلَة، والصلاة علي النبي اتصال به، وهو واجب فعله، ينفع البشر بدلالة فعل الأمر للبشر وفعل المضارع لله، إذ في فعل المضارع استمرار وديمومة، إذ القائل هو الدائم الأول والآخر، وفي فعل الأمر حمل دائم على الفعل، مما يعني التقصير من قِبل المخاطَبين بالأمر الإلهي، ولكن عليهم أن يفعلوا ويبذلوا طاقتهم في الصلاة علي النبي وآله، أي الاتصال به واتِّباعه والسير على منهجه ومدحه والثناء عليه والتحبّب والتودّد إلى ذرّيّته وغير ذلك .
أما الرسول فهو صاحب قَدَمَ الصدْق عند ربِّه “لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ” (التوبة: 128).
وأما الرسالة فهي “إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي” (طه: 14)، “فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ” (الروم:30)، “إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ” (الأنبياء:92)، “قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ” (الأنعام: 162).
ومن باب الصلاة علي النبي، أي دوام الاتصال به، الصلاة على آله والصلة بهم، وانظر أيها المؤمن المحقّق “قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ۗ ” (الشورى:23)، كفاه الله وأغناه عن طلب الثناء عليه من البشر وغيرهم ولم يطلب إلا المودّة منهم قي قُرباه، لقاء جميل ما صنع لنا، هذا هو الرسول، وقد أودع فينا رسالته الإلهية وهي القول الثقيل، ثقيل في عِظَم شأنه وجليل أثره، القول الإلهي الذي حمله جبرائيل- عليه السلام- إلي الرسول، تلك النعمة الإلهية العظمي، وأكملها وأتمَّها ربَّ العزَّة بشهادته هو ذاته لذاته، وقد مرَّت منذ أيام ذكرى ١٨ ذي الحجّة، الذي أوصي فيه النبي صحابته والمؤمنين بعد حجَّة الوداع بموالاة الإمام علي بن أبي طالب من بعده (مَنْ كنتُ مولاه، فهذا عليٌّ مولاه) وبنفس الموقف الجَلَل أمر بالتمسُّك بالقرآن والعِتْرَة النبويّة، وأن المؤمنين إن فعلوا فلن يضلّوا من بعده أبدا، وقال في موضع آخر (أنا مِنْ حُسين وحُسين منِّي) وتحلّ ذكرى شهادة الإمام الحسين قريباً، والنبي إذ يقول كذلك، فهو يعني أن الحُسين يمثّله ولو كان في موقفه لفعل مثلما فعل، وكذلك فإن أئمة هذا البيت النبوي وذرّيّتَه العاملة بمنهجه كلّها من هذا النبي وهو منها، إذ لو زار المؤمنُ مقاماتهم متقرِّبا إلى جدّهم متودّدا إليه مُصلِّيا عليه، فهو من الدين، وإذا طلب نصر الله وعونه بمحبّة الله لجدّهم ولهم، فهو أمر في صُلب صحيح العقيدة والدين، ولا علينا إن جهل بعض العامة في حبّهم لآل البيت، ثناء واحتفاء أو إنكارا واستنكافا، فواجب العلماء البيان والتبليغ وإقامة الحجّة على الدوام وكشف الشُبَهِ العقائدية والسلوكية لدى العوام وبه نثني حقًّا علي رسول الله بتبليغنا بصحيح دعوته وسليم منهجه ونهجُر ما هجره، ونهاجر إلى ما هاجر إليه.