د. محمود عبده: الرسول أسس بعد الهجرة مركزا لإدارة الاقتصاد لمواجهة الاحتكار اليهودي
د. عبدالله راجح: الخليفة المستنصر باع كل ما يملك للتغلب على”الشدة”
تحقيق: طــــارق عبدالله
طالب علماء وأساتذة التاريخ الإسلامي بضرورة استلهام العبر والدروس في مواجهة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المعاصرة من تاريخنا العربي والإسلامي، وتعلم كيف استطاع الرسول الكريم وخلفاؤه الراشدون ومن جاء بعدهم التغلب على التحديات الصعبة التي واجهتم، مشيرين إلى أن التاريخ البشري المختلف ملئ بالأزمات الاقتصادية التي تعرضت لها شعوب العالم من غلاء أسعار وقحط وفوضى، كان لها تأثير خطير رافقها انتشار الأمراض والأوبئة وفقدان الأمن والنظام. إلا أن تدابير الخلفاء والحكام وقتها نجحت في إنهاء تلك الأزمات والتغلب عليها.
أكدوا أن التاريخ العربي الإسلامي سيظل شاهدا على تقديم الحلول الجذرية لتلك الأزمات من خلال الرؤي والتدابير الاقتصاية الصائبة للحكام في ذلك الوقت. مستشهدين بموقف الخليفة عمر بن الخطب في عام الرمادة فكان يتحمل الجوع والصبر عليه بجانب عدد من الإجراءات الاقتصادية الصائبة، وبموقف الخليفة المستنصر خلال “الشدة المستنصرية” الذي قام ببيع كل ما في قصره من ذخائر وثياب وأثاث، فضلًا عن ذلك منع الاحتكار، حيث أجبر الولاة أن يأمروا التُّجار بأن يُخرجوا ما لديهم من غلة.
بداية يقول د. محمود عبده نور الدين- أستاذ التاريخ والحضاة الإسلامية بجامعة الأزهر-: التاريخ يلهمنا الكثير من الدروس البليغة، وسيبقى قادرا على ذلك مما يفيدنا في حياتنا المعاصرة وفي بيان قدرة الإرادة الإنسانية على التقدم، وتبصرنا معرفة أحوال المجتمعات في الماضي، وكيفية تطورها بالعوامل المؤثرة في تيارات القوى التي تحركها الدوافع .
ويشير إلى أن الفئة الإسلامية الناشئة تعرضت بعد ست سنوات من بدء الدعوة، وبالتحديد في السنة السابعة من البعثة النبوية، لإحدى أخطر الأزمات الاقتصادية في تاريخ الدعوة الإسلامية، حيث فرض أعداء النبي ودعوته، من المشركين واليهود وغيرهم حصارا اقتصاديا شديد، على النبي وأصحابه من المسلمين، وممن ساندهم من بني هاشم، دام قرابة ثلاث سنوات، وشمل مع بُعده الاقتصادي بعدا اجتماعيا، فكانوا لا يناكحوهم ولا يكلمونهم ولا يتعاملون معهم طوال مدة المقاطعة، التي تعاهدوا عليها ووثقوا تعاهدهم هذا في صحيفة علقوها في الكعبة. لافتا إلى أن المشركين أمعنوا في التضييق على المسلمين في حصارهم ومقاطعتهم، حتى عملوا على شراء ما بالأسواق من طعام ومؤن حتى لا يبقى للمسلمين شئ، وكان منادي الوليد بن المغيرة ينادى في قريش: أيما رجل وجدتموه- أي من المسلمين- عند طعام يشتريه فزيدوا عليه وحولوا بينهم وبينه، وقد اشتد البلاء بالمسلمين وعظمت الفتنة فيهم وزلزلوا زلزالا شديدا، حتى كان قريش تسمع بكاء الأطفال ليلا وهم يتضرعون من الجوع، ويتحدثون عن ذلك في مجالسهم إذا أصبحوا، حتى مات بعض من في الشِعب.
.. لكن النبي – كما يوضح د. نور الدين- عمل مع أصحابه ومن معه من عشيرته بني هاشم، ومن خلال ما يربطهم ببعض الناس من صلة رحم وعلاقات أخرى، على مقاومة هذه المقاطعة والكفاح لتخفيف ما يترتب عليها من أضرار قدر استطاعتهم، وذلك من خلال ما يأتي:
– أولا: إرسال من تربطهم بهم صلة رحم أو حلف أو صداقة بعض الطعام والمؤن سرًا.
– ثانيا: تجارة بعض أقارب وحلفاء وأصدقاء المحاصرين في أموالهم نيابة عنهم، مما ساعدهم في التماسك ماديا وقضاء حوائجهم الضرورية، وقد أكل الحصار رؤوس أموال الكثير منهم.
– ثالثا: خروج النبي ومن معه وقت الموسم، في الأشهر الحرم، وممارستهم لحياتهم ونشاطهم من بيع وشراء، كما كان النبي يواصل فيه دعوته إلى الإسلام وخاصة للقادمين من خارج مكة.
وظل الأمر على هذه الحال حتى بدأ كسر الحصار وإنهاء المقاطعة بخطوات تدريجية من قبل أناس تغلبت عليهم بعض طبائعهم الإنسانية، ومروءتهم العربية، وكان بعضهم- على الأقل- ليس من الأحلاف المتعاهدة على المقاطعة، مثل هشام بن عمرو بن ربيعة من بنى عامر بن لؤي، الذى كان يأتي بالبعير ليلا وقد حمله طعاما، حتى إذا أقبله الشعب خلع خطامه وضرب على جنبيه فيدخل البعير الشِعب، ومنهم حكيم بن حزام بن خويلد الذى كان يرسل إلى عمته السيدة خديجة بالبعير المحمل دقيقا، وأحيانا يُحَمِل غلاما له الطعام والمؤن للسيدة خديجة ومن معها. ثم قام هشام بن عمرو بجهد كبير لجمع حلف مصغّر لكسر المقاطعة، مكون من خمسة أو ستة، يبدو أنه كان لديهم نفس مبادئ ومشاعر هشام بن عمرو في رفض هذا الظلم، إلا أنه تميز عنهم بالمبادرة والبدء لذلك، فاستجابوا على الفور وكانوا معه في كل خطوة حتى انتهى الحصار .
مؤسسة لاقتصاد أخلاقي
لكن لم تقتصر الأزمات الاقتصادية خلال العصر النبوي على ذلك، حيث واصل النبي مواجهته للأزمات الاقتصادية بعد ذلك، وفي كل مراحل الدول الإسلامية في عصره، ومن ذلك قيامه بعوامل تأسيسية لتفادي هذه الأزمات أو تخفيفها على الأقل، فضلا عن كون تلك العوامل مؤسسة لاقتصاد أخلاقي قيمي تتحقق فيه العدالة والتعاون بين أفراد المجتمع، ففي مرحلة تأسيس الدولة الإسلامية في المدينة المنورة بعد الهجرة، قام الرسول بعاملين أساسيين في هذا الإطار:
* أحدهما: المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، في إطار إخوة الإسلام وعلاقة المواطنة، وقد ارتكزت هذه المؤاخاة على الجانب الاقتصادي- في الغالب- لحاجة المهاجرين إلى ذلك، وتفاديا لمعاناتهم المالية، حيث إنهم تركوا أموالهم وديارهم في مكة.
* الآخر: تأسيس مركز إدارة الاقتصاد والتجارة- وهو السوق- حيث أسس سوق المدينة، وقد حاول اليهود عرقلة تلك الإجراءات من النبي، لكن حكمته وحزمه تغلبا على مكر اليهود وعدائهم، حيث قام اليهودي المعروف آنذاك كعب بن الأشرف بقطع أطناب الخيمة التي نصبها النبي في بقيع الزبير مؤسسا بذلك السوق، فأقامها في مكان كان أغيظ لكعب بن الأشرف من المكان السابق غربي المسجد النبوي، وسمى المكان “سوق المدينة “.
عام الرمادة
يستطرد د. محمود عبده في الحديث عن الأزمات الاقتصادي التي واجهت عصر النبوة والخلفاء الراشدين، والتي كانت من أبرز النماذج التاريخية في الحلول الاقتصادية الرائعة. مستشهدا في ذلك بعام الرمادة عام 18هـ زمن خلافة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، اذ أصاب المدينة المنورة وما جاورها من المدن والبلاد، أزمة اقتصادية من قحط وجوع وقلة أمطار، أهلكت الناس، حيث عاش أهل المدينة في ذلك العام مظاهر عصيبة من المجاعة حيث جف فيها ضرع الحيونات، وهزلت الأبدان ونفقت المواشي، وخلا البيت من زاد اليوم، فمرض الناس، وأوت الوحوش تلتمس المأكل عند مساكن الناس، كما شهدت فزع أهل البوادي إلى المدينة يطلبون الزاد من مركز الخلافة، فزاد الخطب على المسلمين واستمر الوضع قرابة الـ 9 أشهر قبل أن يغاث الناس .
اجراءات صائبة
وهنا يستعرض د. عبدالله راجح- أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة الأزهر- تفاصيل الابتلاء الذي حدث في زمن الخليفة الراشد الفاروق عمر بن الخطاب؛ ففي العام الثامن عشر للهجرة أصاب الناس بالمدينة وما حولها جوع وقحط شديدين، حتى إن الوحوش كانت تأوي إلى الأنس؛ ولأنَّ الرِّيح كانت تسفي ترابًا كالرَّماد سُمي هذا العام بـ”عام الرمادة”.. وأمام هذا الوضع آثر عمر ألَّا يذوق سمنًا، ولا لبنًا، ولا لحمًا حتى يحيى الناس، ومن فوره قام باتخاذ العديد من الإجراءات للحد من آثار تلك المجاعة؛ فاستعان بأهل الأمصار فحملوا إليه الطعام والكساء، فشرع في توزيعه على أهل المدينة، ومن لاذ بها، كما قام الفاروق بوقف حدِّ السرقة في تلك الأثناء، وبخاصة وأن شروط تنفيذ الحدِّ لم تكن متوافرة؛ جراء تفشي القحط والجوع.
ومن جملة الإجراءات التي قام بها سيدنا عمر- كما يقول د. راجح- توفير الاعتمادات المالية للأزمة لمواجهة تلك الأزمة النازلة بالأمة في ضوء الاعتماد المالي الموجود ببيت المال، فيذكر عنه أنه قال: “لئن أصاب الناس سنة لأنفقن عليهم من مال الله ما وجدت درهمًا فإن لم أجد ألزمت كل رجل رجلًا”، وقوله: “لو لم أجد للناس من المال ما يسعهم؛ إلا أن أدخل على كل أهل بيت عدتهم فيقاسمونه أنصاف بطونهم حتى يأتي الله بخير لفعلت فإنهم لن يهلكوا على أنصاف بطونهم”. مستشهدا بما ذكره البلاذري أن الفاروق أمر بإحصاء من يؤخذ المعونة المقررة (طعام العشاء) على نفقة بيت المال- مع بداية الشدة- كإجراء احترازي للحد من وطأة تلك الأزمة وتماشيًا مع الاحتياطي النقدي في بيت المال فيما يبدو.
ويوضح د. راجح أن تلك الأزمة أظهرت حكمة وصبر خليفة المسلمين، كما ظهر ورعه وفهمه العميق لروح الدين الإسلامي وعلل الأحكام والحدود في الشريعة الإسلامية، حيث استطاع الفاروق إدارة هذه الأزمة العصيبة التي مرت على المسلمين بحكمة ودراية أخذًا بالأسباب جميعها ومتوكلًا على الله تعالى، حيث ضرب الفاروق من نفسه للناس قدوة في الصبر وتحمل الجوع، حتى ذكر أنه تغير لونه من شدة العطش والجوع نتيجة نقص الغذاء والماء، كما حث الناس على طلب المغفرة بكثرة الصلاة والدعاء واللجوء إلى الله، كما حرص الفاروق على الاستعانة بأهل الأمصار، حيث أسرع فكتب إِلى عمَّاله على البلاد الغنية يستغيثهم، فأرسل إِلى عمرو بن العاص عامله على مصر، وكان الفاروق يقوم بتوزيع الطعام على كثيرٍ من القبائل في أماكنهم من خلال لجان شكلها لهذا الغرض، فذكر أهل السير أنه عندما وصلت إِبل بن العاص إِلى أَفواه الشام، أرسل عمر من يشرف على توزيعها مع دخولها جزيرة العرب. ومما برزت فيه حكمة الخليفة الفاروق أنه أثناء هذه الأزمة، أمر بوقف حد السرقة في عام الرمادة، لأن شروط تنفيذ الحد لم تكن متوافرة. كما أوقف إلزام الناس بالزكاة في هذا العام، وبعد انتهاء المجاعة، وتخصيب الأرض جمع الزكاة عن عام الرمادة .
الشدة المستنصرية
وفي العصر الفاطمي– والكلام مازال للدكتور راجح- شهدت مصر في منتصف القرن الخامس الهجري زمن الخليفة المستنصر بالله أزمة اقتصاديَّة طاحنة اصطلح عليها المؤرخون بـ”الشِّدة العُظمى”، أو “الشِّدة المستنصريَّة” حيث قصُر ماء النيل عن الفيضان؛ فارتفعت الأسعار وتزايد الغلاء، وأعقبه الوباء حتى إن الأراضي الزراعيَّة تعطلت، واستولى الجوع لعدم وجود الأقوات على حد وصف المؤرخ المقريزي، والذي إبان أن رغيف الخبز كان يباع بخمسة عشر دينارًا، وأن الإردب من القمح كان بثمانين دينارًا، مضيفًا أن الكلاب والقِطط أُكِلت حتى قلَّت الكلاب، وتزايد الحال حتى أكل الناس بعضهم بعضًا، ويذكر أن مصر إبان تلك الأزمة فقدت ثُلُث سكانها، وقد واجه المستنصر تلك الشدة ببعض التدابير المهمة؛ من ذلك قيامه ببيع كل ما في قصره من ذخائر وثياب وأثاث، فضلًا عن ذلك منع الاحتكار فأجبر الولاة أن يأمروا التُّجار بأن يُخرجوا ما لديهم من غلة، وأن يطرحوها في أسواق القاهرة والأقاليم؛ كما أنه استنجد بالوزير القوي بدر الدين الجمالي ليحقق له آماله في فرض النظام واستتباب الأمن، وإنهاء تلك الحالة التي تمر بها البلاد، فما كان من بدر الجمالي إلَّا أن أطلق الخراج للمزارعين ثلاث سنين، حتى ارتفعت أحوالهم المعيشيَّة، واستغنوا في أيامه؛ وبهذا انكشفت الشدة وانجلت الأزمة.