بقلم الدكتور: طلعت عبد الله أبو حلوة
أستاذ البلاغة والنقد
ووكيل كلية الدراسات الإسلامية والعربية جامعة الأزهر
تعد غزوة بدر الكبرى بداية مرحلة مهمة من مراحل الدعوة الإسلامية، ألا وهي مرحلة الكفاح المحمود الممدوح، والجهاد المسلح المقدس دفاعًا عن الدعوة ضد ما يُكاد ويدبر لها بُغْية استئصال شأفتها، ووأدها في مهدها، وهي غزوة الفصل في الصراع بين الحق الواضح الأبلج والباطل المظلم الأرعن الغاشم؛ ولذا سماها الله –U– يوم الفرقان في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ﴾ الأنفال: (41)؛ لأن الله –I– فرق بها بين الحق والباطل، وهي من أيام الله -ويقصد بها الوقائع والأحداث العظمى والنعم الكبرى- التي أمرنا أن نُذَكِّر بها، والذكرى تنفع المؤمنين، وقد كان يومها مُنْذِرًا ومؤذنًا بالعواقب التي تعود بعدها على الإسلام ودعوته، فهو يوم له ما بعده؛ ولذا قال النبي -ﷺ- في مناشدته ربه ودعائه بالنصر: (اللَّهمَّ إنَّكَ إنْ تُهلِكْ هذه العِصابةَ من أهلِ الإسلامِ، فلا تُعْبَدُ في الأرضِ أبدًا)، وقد كانت هذه الغزوة مليئة بالدروس والفوائد، ومُتْرَعة بالعبر والعظات التي ينبغي أن نَتَذَكَّرها، ونُذَكِّر بها، ونستفيد منها، ومن أهمها ما يأتي:
1- ضرورة وأهمية الاستعداد والأخذ بالأسباب مع الإخلاص وحسن التوكل وصدق العزيمة: فلم يكن النبي -ﷺ- متواكلًا أو متغافلًا عن ضرورة الاستعداد والأخذ بالأسباب، وإنما كان يأخذ الحيطة لكل أمر، ويلتفت لمواطن الضعف؛ ليقويها، فَقَدَّرَ المسئولية لتحقيق النصر، وحماية قواته، حيث قام بتنظيم الجيش في تشكيل حربي يأمن خطر المفاجأة، وأعد السلاح، وعَقَدَ الألوية، ووَزَّعَ الأدوار، وصَفَّ الجنود، وعَبّأ نفوسهم، وشَحَذَ هممهم، وقَوَّى عقيدتهم، ورَسَمَ لهم خطة المواجهة، وبَيَّنَ الجزاء الذي يكون من أجله التضحية والاستشهاد، وكَتَمَ الأسرار عن أعدائه، ورمى بالحصباء في وجوههم، ثم بَشَّرَ أصحابه بالنصر، كل ذلك وغيره مع صدق الإخلاص، وحسن التوكل، وقوة العزيمة، والاجتهاد في الدعاء والمناشدة، والثقة في الوعد بالنصر.
2- الاهتمام بالشورى: فهي أمر مهم وضروري لكل قائد يتولى أمر جماعة، رئيسًا كان أو أميرًا، أو وزيرًا، أو مديرًا، أو غير ذلك، والأخذ بها يساعد على استكشاف ما عند من يُسْتَشارون، واكتمال الرؤية وتوضيحها للقائد، كما يعمل على تحمل المسئولية، والشعور بالتبعة، حيث يحس الجميع بأنهم مسئولون ومشاركون، وقد أخذ النبي -ﷺ- بها، وكانت عاملًا مهمًّا جدًّا في تحقيق الانتصار، فقد كان الغرض الأصلي من خروج النبي ومن معه هو ملاحقة قافلة قريش التجارية دون مواجهة تعويضًا بما فيها عما اضطرتهم قريش إلى تركه أثناء الهجرة من ديار وأموال، ثم تحول الغرض بعد ذلك من غنيمة وملاحقة القافلة بعد نجاتها وإصرار قريش على الحرب إلى مواجهة جيش العدو، وأصبحت المواجهة حتمية اللقاء، فاستشار النبي أصحابه، وأبدوا جميعًا الموافقة على المضي دون تردد، وكان التركيز على الأنصار؛ لأنه لم يكن قد اختبر أمرهم قبل ذلك، فكان جواب السَّعْدْينِ -سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة- عاملًا مهمًّا جدًّا في تعبئة النفوس للقتال، وسُرَّ النبي به حتى وعد المسلمين بالنصر، كأنه ينظر إلى مصارع القوم، ولا يخفى أيضًا ما أشار به الحُباب بن المنذر على النبي بتغيير موقع الجيش بعد أن علم أن اختياره للموقع كان باجتهاد منه، وليس بوحي من الله U، فأشار بأن يكون منزل الجيش عند أدنى ماء من جيش العدو، فوافق النبي على رأيه، وأثنى عليه، كما لا يخفى كذلك ما أشار به سعد بن معاذ علي النبي ببناء عريش -أي مقر للقيادة- يجلس فيه النبي إذا لزم الأمر، ويصدر منه أوامره وقراراته وتوجيهاته للجيش، فوافقه النبي، وأثنى عليه خيرًا.
3- الاصطفاف والالتفاف خلف القائد: وهذا الأمر من أهم أسباب تحقيق الانتصار؛ لأن الافتراق والاختلاف والتشرذم سبب في إضعاف القوة، وذهاب الريح، والفشل والهزيمة، وقد ضرب الصحابة من الهاجرين والأنصار في ذلك المثل الأعلى، فاصطفوا خلف النبي، وانصاعوا لأوامره، وانقادوا لتعليماته، الأمر الذي كان عاملًا مهمًّا وضروريًّا جدًّا في تحقيق النصر المبين المُؤَزَّر على العدو.
4-المساواة بالمشاركة في العمل، والاقتصاص من النفس: فلم يكن النبي متميزًا عن أصحابه، وإنما كان يشاركهم في كل ما ينتابهم، الأمر الذي شجعهم على الانقياد لأمره، فتناوب معهم الركوب والمشي، وقاتل معهم عندما لزم الأمر حتى كان أقربهم إلى العدو، وحتى كانوا يتقون به إذا حَمِيَ الوطيس، واشتد البأس، واستحرّ القتال، واحمرت الحَدَقَ، وسمح لهم بالاقتصاص من نفسه، كما فعل مع الصحابي سَواد بن غَزِيّة، حيث وجده أثناء تسوية الصفوف خارجًا بارزًا عن الصف، فضربه على بطنه، وأمره بالاستواء، ولم يرض سَواد إلا بالقصاص، فوافق النبي، وما كان غرض سَواد إلا أن يكون آخر عهده بالنبي أن يمس جِلْدُه جِلْدَه، وكفى بذلك له عِزًّا وشفاعة.
5- حسن المكافأة وردّ الجميل: وقد تجلى ذلك واضحًا في قول النبي -ﷺ- في شأن أُسارى بدر: ” لَوْ كانَ المُطْعِمُ بنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي في هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ”، وذلك تذكير واعتراف بالجميل الذي صنعه المُطْعِمُ، حيث سعى في نقض الصحيفة الجائرة التي تضمنت بنودها ضرب العُزْلة والحصار الاقتصادي على النبي ومن كان معه في شِعْب أبي طالب، كما أجار النبيَّ في دخوله مكة بعد عودته من الطائف، وقد تأبّوا على قبول دعوته، وصَمّوا آذانهم، واستغشوا ثيابهم، ورفضت قريش دخوله مكة، فحفظ له النبي هذا المعروف وذلك الجميل.
6- ضرورة الاستطلاع وأهمية الاستكشاف وجمع واستقصاء المعلومات: حيث قام النبي وصاحبه أبو بكر بعملية استكشاف، إذ هما بشيخ من العرب، فسأله الرسول عن قريش وعن محمد وأصحابه زيادة في التَّكَتُّم، فقال الشيخ: إنه قد بلغني أن محمدًا وأصحابه خرجوا يوم كذا، فإن كان قد صدق الذي أخبرني فهو اليوم بمكان كذا -إشارة للمكان الذي به جيش النبي- وبلغني أن قريشًا خرجوا يوم كذا، فإن كان قد صدق الذي أخبرني فهو اليوم بمكان كذا، إشارة إلى جيش العدو، كذلك استعان النبي بالعيون والمراقبين، فبعث عليًّا ونفرًا من أصحابه يتحسسون الأخبار، ويستكشفون الخطط، فعرف قوة جيش عدوه، وعلم أن عدده ما بين التسعمائة والألف، وأن فيهم كثيرًا من أشراف قريش، وأن قريشًا قد ألقت إليهم بأفلاذ أكبادها.
7- سماحة الإسلام في معاملة الأسرى: حيث أسر النبي من جيش قريش سبعين، عامتهم من القادة والزعماء والصناديد، فراعى فيهم معاني الرحمة والكرامة الإنسانية التي تراعي مصلحة الدولة المسلمة، وحقوق الأسرى التي لم يبلغها القانون الدولي الإنساني المعاصر، فقال -ﷺ-: “استوصوا بالأُسارى خيرا”، حتى أخبر أحدهم بأن آسريه كانوا يؤثرونه بالخبز، واستشار فيهم أصحابه، فأشار أبو بكر بالعفو عنهم وقبول الفداء منهم، وأشار عمر بقتلهم، فَغَلَّبَ الرحمة، وأخذ برأي أبي بكر، فامتن على بعضهم بالعفو وقبول الفداء، وامتن على بعضهم الذين ليس معهم مال بالعفو مقابل تعليم عشرة من الصحابة القراءة والكتابة، فكان بذلك أول من نادى بفتح فصول لمحو الأمية.
وفي هذه الغزوة الكثير والكثير من الدروس والفوائد والعبر التي تستحق الوقوف عندها والاستفادة منها، ولكن حسبنا من القلادة ما أحاط بالعنق، فيا حُماة الإسلام وذادة الأوطان، إن السابقين الأولين يشرفون عليكم اليوم من علياء السماء؛ لينظروا ماذا تصنعون بميراث النصر والعزة والكرامة الذي تركوه في أيديكم، فماذا أنتم فاعلون؟