إعداد: نهى الفخراني
كاتبة وباحثة برابطة الجامعات الإسلامية
لعلك تعود عزيزي القارئ بذاكرتك للوراء وتسترجع أجواء شهر رمضان الكريم وأنت صغير، وما كنا نحفظه ونردده -ومازلنا – مع بعض المدرسين في المدارس بل مع الأهل، بأن الغاية من الصيام، هي الشعور بجوع الفقراء وحرمانهم، فهل هذا المنطق دقيق؟ هل الغاية الوحيدة من الصيام الشعور بالفقراء فحسب؟
لو كان الصيام للشعور بالفقراء فهذا يعني أن الفقير من المفترض ألا يصوم.. وأن يكون شهر رمضان بمثابة الشهر الرائج له فيحصل من الغني على ما لذ وطاب فيُشبع جوعه ويخزن بيته بمأكولات يكون نصيبه منها دائما هو مجرد مشاهدة الميسورين وهم يشترونها!
ثانيا: لو كان الصيام للشعور بالفقراء أليس ذلك بابا مفتوحا أمام الميسورين ومتوسطي الحال بادعاء الفقر وتجنب الصيام؟ نعم تجنب الصيام خاصة وأن النفوس الضعيفة كثيرة جدا، وتكره الصبر على الطاعة، والصيام هو من العبادات التي تحتاج إلى صبر وجلد.
ثالثا: من يحدد مستوى الفقر.. فأنا قد أكون فقيرة مقارنة بالمليونير، والمليونير أمام الملياردير أفقر منه وهكذا.
ألا ترون أنه منطق غير دقيق!
إن الصيام مدرسة يدخلها الفقير والغني لا فرق بينهما.. فالغني يتودد للفقير ليحصل على رضا الله بالصدقات والزكوات.. والفقير يجد من يحنو عليه فيصوم وهو يدرك أنه سيفطر إفطارا مميزا عن باقي أيام العام.. فهو بذلك مميز.. حتى لو لم يجد من يحنو عليه في الدنيا فالله وعده بالتميز في الآخرة.. فضلا عن تحقيق قيمة الصبر على الطاعة عند الجميع سواء في الصيام والقيام أو في الإنفاق الذي هو عبادة تحتاج لطاقة ومجاهدة.
فلم يستثني الله أحدا من الصوم إلا المريض سواء كان غنيا أو فقيرا.. كما استثنى الله من الصيام المسافر.. وهذه الأمور لا تحتاج إلى تحري فالمريض واضح عليه علامات الإعياء وهكذا المسافر.. فيباح لهم الإفطار في نهار رمضان، لكن هذه الرخصة تكون مقابل (عِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ).
رابعا: ألم ترسخ العقيدة مبدأ السواسية أمام الله، فالأمر بالعبادات يرسخ هذا المبدأ.. فالغني يصلي بجوار الفقير، وكلاهما يخلع نعليه ويستقبل القبلة ويركع ويسجد، والكل يؤدي الفرائض دون اختلاف.. فلماذا نُعلم أولادنا إذا أننا نصوم لنشعر بجوع الفقراء الذين نجوع مثلهم أثناء الصيام! ولماذا نفطر جميعا ونصوم في وقت واحد!
خامسا: أليس اقتصار فائدة الصيام على الشعور (بالجوع) إنما هو حصر لمفهوم الصيام لجوع البطون فحسب، الذي هو في الأصل صوم للجوارح وتزكية للنفس.
سادسا: أليس من مقاصد الصيام تأجيل المسلم (لإشباع الرغبات) التي هي في الأصل حلال في باقي أيام العام لكن لا تكون حلالا في هذا الشهر الكريم ألا لوقت محدد، هذا الوقت الذي يتم وفق ساعات إفطار وسحور محددة، لا يجوز التقديم عنها أو التأخير، وفي ذلك احترام بل وتقديس لقيمة الوقت.
سابعا: ألا يفيد الصوم في انتصار العقل على الشهوة، فليس كل ما يتمناه الإنسان من رغبات يُبلى فوريا، ففي الصوم، نضج، وصبر وكف عما تلح به النفس من شهوات ورغبات.
ثامنا: لعل من حِكَم الصوم أيضا، إشعار الصائم بنعم الله التي لا تحصى عليه ودفعه لشكر النعمة؛ لأن ألفة النعم يفقد الإحساس بقيمتها، فلا يُعرف مقدار النعمة إلا عند فقدها.
تاسعا: بشكل أدق .. إن العبرة من الصيام – حتى نعلم أولادنا بشكل سليم -هي الامتثال لأوامر الله التي بها صلاح لحالنا في الدنيا والاخرة… يقول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون “. (البقرة:183) فحصول الصائم على التقوى ليس بالأمر اليسير.. فالصوم عبّر الشرع عنه بالصبر، والصبر هو طريق التقوى وضبط الذات.
عاشرا: كي يكتمل صيامنا ويتقبله الله فنحن مأمورون بالتقرب لله بالمال بإخراج الزكوات، هذا المال الذي يكون من أكثر الأشياء المحببة للإنسان.. لكنه ينفقه طاعة وامتثالا لأوامر الله تعالى.
وفي (زكاة الفطر) تتجلى فيها شكر نعم الله عز وجل على الصائمين بإتمام صيامهم، وتعد زكاة الفطر صدقة من نوع خاص، تجب على كل مسلم، غني أو فقير، «ليذوق كل مسلم طعم العطاء وطعم الإنفاق في العام مرة، وفي هذه العبادة تكافل اجتماعي وتلاحم أخوي، وفيها إشعار الفقير والمسكين بأنه ليس وحده الذي يتحمل أعباء الحياة بل المجتمع الإسلامي يعيش حياته ويشاركه همومه.
فالصيام فرصة رائجة للغني والفقير على حد سواء.. ففيه يتحقق أسمى أشكال التكافل والتقارب والرحمة بين الناس.