مضت أيام وليال طويلة حُرِمنا فيها قراءة القرآن الكريم أو مسّه لعلّة الحيض! وسبحان الله كالعادة المذهب المتصدّر للعامة هو القاضي بالتحريم! رغم أن المسألة خلافية يتجاذبها ثلاثة أقوال لأهل العل! ولا أدري علّةً في تصدير هذا الرأي وإغفال باقي الأقوال في المسألة!
وفي السطور التالية وبعيداً عن السرد المنهجي لمسائل الفقه، وبخلاصة موجزة ودقيقة أكشف النقاب عن حكم هذه المسألة :المسألة بغاية الاختصار والدّقّة يتجاذبها ثلاثة أقوال لأهل العلم :والسبب في اختلافهم يرجع إلى تردّد مفهوم قوله تعالى: (لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ) بين أن يكون المطهّرون هم بني آدم، وبين أن يكونوا هم الملائكة، وبين أن يكون هذا الخبر مفهومه النهي، وبين أن يكون خبرا لا نهيا، فمن فهم من (الْمُطَهَّرُونَ) بني آدم وفُهم من الخبر النهي، قال: لا يجوز أن يمسّ المصحف إلا طاهر، ومن فهم منه الخبر فقط وفهم من لفظ (الْمُطَهَّرُونَ) الملائكة، قال: إنه ليس في الآية دليل على اشتراط هذه الطهارة في مسّ المصحف، وإذا لم يكن هنالك دليل لا من كتاب ولا من سنّة ثابتة بقي الأمر على البراءة الأصلية وهي الإباحة.
والأقوال هي :الأول: وهو قول الجمهور حيث حرّموا على المُحدِث حدثاً أكبر- حيضا كان أو نفاسا أو جنابة مسّ المصحف- وأجاز بعضهم مسّه إذا كان في جراب خاص به .
وهذه تفاريق لا دليل على صحّتها، لا مِن قرآنٍ ولا من سنَّةٍ- لا صحيحةٍ ولا سقيمةٍ- ولا مِن إجماعٍ ولا مِن قول صاحب، ولئن كان “الجراب أو الخُرج” حاجزاً بين الحامل وبين القرآن: فإنَّ اللوحَ الذي عليه القرآن وظاهرَ الورقةِ حاجزٌ أيضاً بين الماسِّ وبين القرآن! ولا فرق.
وعمدة هذا القول في الاستدلال قوله تعالى: (لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ) .
ومما استدلوا به أيضاً: قصّة إسلام “عمر” وفيها “أن أخته قالت له قبل أن يسلم: إنك رجسٌ ولا يمسه- (أي: القرآن)- إلا المطهرون…”، أحمد ، وفي إسناده مقال وللقصة طرقٌ ورواياتٌ أخرى كلُّها معلولةٌ.
القول الثاني: وهو للسادة المالكية حيث أجازوا للمرأة الحائض والنفساء فقط لمس المصحف ولكن بحائل كثيف (فوطة أو جوانتي) مع تقليب أوراق المصحف بعود أو قلم، وذلك لغرض التعليم والتعلّم، كأن تكون طالبة وتحتاج الحفظ والقراءة حتى لا تنسى، أو معلّمة ولا تستغني عن لمس القرآن الكريم .
القول الثالث: وهولأنس بن مالك وسعيد بن جبير، وانتصر له المحقّق القيم بن قيم الجوزية وشيخه ابن تيمية، بأنه يجوز للمُحدِث حدثا أصغر أو أكبر، حيض أو نفاس مسّ المصحف بدون حائل، وجعلوا الطهارة في لمس المصحف للمحدِث مستحبّة وليست بواجبة، وهذا القول له وجاهته من حيث الدليل وذلك كالآتي :
1- جميع الأحاديث القاضية بتحريم لمس المصحف على الحائض أو النفساء أو الجُنُب معلولة عند أهل الحديث؛ لأنه لا يصحُّ منها شيءٌ، لأنَّها إما مرسلةٌ وإما صحيفةٌ لا تُسند، وإما عن مجهولٍ وإما عن ضعيفٍ.
2- أن قوله تعالى: (لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ )المقصود به اللوح المحفوظ الذي في السماء والمطهّرون هم الملائكة لا بني آدم وذلك لعدّة أسباب: أحدهما: إن هذا تفسير جماهير السلف من الصحابة ومن بعدهم، وشبّهوا هذه الآية بقوله: “كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ. فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ. بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرَامٍ بَرَرَةٍ” عبس 11:16.
وثانيها :أنه تعالى أخبر أن القرآن جميعه في كتاب، وحين نزلت هذه الآية لم يكن نزل إلا بعض المكي منه، ولم يجمع جميعه في المصحف إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم .
وثالثها :أنه تعالى قال: “فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ” الواقعة 78، والمكنون: المصون المحرر الذي لا تناله أيدي المضلّين؛ فهذه صفة اللوح المحفوظ .
ورابعاً: أنه تعالى قال: “الْمُطَهَّرُونَ” وهذا يقتضي أن يكون تطهيرهم من غيرهم، ولو أريد طهارة بني آدم فقط لقيل: المتطهرون، كما قال تعالى: “فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ”، وقال تعالى: “إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ” البقرة 222 ، فنحن لو تتطهّرنا نصبح متطهّرين ليس مُطهّرون، والمُطهّرون هم الملائكة.
وخامساً: أن هذه الآية مسوقة لبيان شرف القرآن وعلوه وحفظه.
وسادساً: أن هذه الآية الكريمة ردّ على من قال: إن الشيطان جاء بهذا القرآن؛ فأخبر تعالى: أنه في كتاب مكنون لا تناله الشياطين، ولا وصول لها إليه كما قال تعالى في آية الشعراء: (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ. وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ) الشعراء 212 ، وإنما تناله الأرواح المطهّرة وهم الملائكة .
وسابعاً: أن الآية مكّيّة من سورة مكّيّة تتضمن تقرير التوحيد والنبوة والمعاد، وإثبات الصانع، والرد على الكفار، وهذا المعني أليق بالمقصود من فرع عملي وهو حكم مس المحدِث المصحف .
وثامناً: أنه لو أريد به الكتاب الذي بأيدي الناس لم يكن في الإقسام على ذلك بهذا القسم العظيم كثير فائدة إذ من المعلوم أن كل كلام فهو قابل لأن يكون في كتاب حقا أو باطلا بخلاف ما إذا وقع القسم على أنه في كتاب مصون مستور عن العيون عند الله لا يصل إليه شيطان، ولا ينال منه، ولا يمسّه إلا الأرواح الطاهرة الزكية؛ فهذا المعنى أليق وأجلّ وأخلق بالآية وأولى بلا شك .
وأيضاً: السيدة عائشة- رضي الله عنها- حينما حجَّت مع النبي م وفاجأها الحيض وهي نازلة في مكان قريب من مكة اسمه “سرِف” دخل عليها النبي فوجدها تبكي، قال لها: {ما لك؟ أنَفِسْت؟} قالت: نعم يا رسول الله، قال:{هذا أمرٌ كتبه الله -عزّ وجلّ- على بنات آدم، فاصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي.
ومعلوم أن الحاج يقرأ القرآن، ويدخل المسجد ويمكث فيه، ويمسّ المصحف .
وأخيراً أقول: ما تطمئن إليه النفس وأراه راجحاً، هو جواز مسّ المصحف للحائض والنفساء، ولكن الأفضل والأكمل عدم مسّه إلا بطهارة كاملة أي البدن والثياب والمكان عند الاستطاعة على ذلك، أو تمسّه الحائض بحائل عند العذر الجبري، أو تقرأ من خلال شاشة الجوّال تعظيماً لشعائر الله تعالى، وخروجاً من خلاف أهل العلم، {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج/32]، وأعظم من ذلك التفكّر والتدبّر فيه والعمل به، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذين يقيمون حروف القرآن وحدوده ولا يجعلنا من الذين يقيمون حروفه ويضيّعون حدوده.