بقلم الدكتور: عادل القليعي
أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بآداب حلوان
كثر في أيامنا هذه الحديث عن المناظرات بين أصحاب اتجاهات فكرية مختلفة سواء كانت هذه الاتجاهات علمانية أو إسلامية أو بين أصحاب الديانات والشرائع المختلفة أو بين أنصار النزاعات اللادينية سواء كانوا ملاحدة أو طبائعيين أو دهريين أو صابئة وغير ذلك.
بل لم يكن الأمر مقصورا على هذا الحد ، فنجد إنه قد جرت مناظرات كثيرة على مر تاريخ الفكر الفلسفي الإسلامي سواء مناظرات عن طريق المواجهات العينية أو المواجهات الكتابية عن طريق تعرض الفرق الكلامية بعضها للبعض وجها لوجه أو في محاوراتهم المودوعة في كتاباتهم وخير دليل على ذلك كتاب مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري ، وكتاب الإنتصار للخياط ، كذلك بين الفلاسفة وخير شاهد على ذلك كتاب بول كراوس رسائل الرازي الفلسفية والذي ذيله بمناظرة أسماها الرازيان ، أبو حاتم الرازي وأبو بكر الرازي الطبيب والتي غلب عليها الطابع العقلاني.
وفي التاريخ العربي والإسلامي الحديث مناظرات الإمام محمد عبده فى كتابه الإسلام دين العلم والمدنية مع هونونو.
وهذا ليس جديدا على الفكر الانساني فوجدنا ذلك فى مناظرة هابيل لأخيه قبيل (بين ثنائيّة الخير والشر) ووجدنا ذلك أيضا فى محاورة السوفسطائي عند سقراط، ومناظرة أرسطو لإقراطليوس كلاهما يريد أن يثبت بجدلياته وحججه انه على صواب انتصارا لمذهبه ، أحدهما وهو أرسطو يريد أن يثبت وجود المعروفة وإمكان قيامها والآخر اقراطليوس يريد أن يثبت أنه لا يوجد معارف يقينية.
وجدنا ذلك فى أيامنا هذه فشاهدنا على الهواء مباشرة مناظرات بين مناصرين للفكر الاسلامى ومناهضين له على الرغم من أن كلا الطرفين يدين بدين الاسلام لكن كل فريق ينظر الى الدين من خلال رؤيته وتوجهه فأنصار الاتجاه الإسلامي ينظرون إلى الإسلام بنظره شمولية على أنه منظم للحياة وصلاحيته سيالة متدفقة وهذه وجهة نظر لها وجاهتها.
أما أنصار الاتجاه الآخر فيرون أن هناك خلل فى بعض النصوص ولا تصلح للزمكانية الحالية فقالوا بتاريخانية النص وأن النص القرآني نزل لفترة تاريخية معينة وهذا ما يفهم من القول بتاريخانية النص وهذه رؤيتهم التي من الممكن أن تعقد المناظرات بشأنها لإقناع أنصارها ومن تبناها عقلا بخطأ منطقه أو يقنع الآخر بالحجية المزدوجة بمعني الفريق الأول يقنع عقلا والفريق الثاني يقنع نقلا أي يستدل من خلال النصوص القرآنية على توجهه الفكري.
أو كأولئك الذين يسعون إلى المناظرات الآن من أجل أن يثبت كل فريق بالحجة والدليل صحة ما يتبناه ، فنجد التكوينيون يذهبون إلى ما أطلقوا عليه تجديد الخطاب الفكري ، ومن ضمنه تجديد الخطاب الديني ، لكن هل تجديد الخطاب الفكري يعني التنصل من تراثنا الحضارية والتشكيك في سير الأبطال وسبهم وقذفهم كمن يشكك مثلاً في الفاتح صلاح الدين ، هذا ليس تجديدا وإنما اجتراء على ما هو راسخ فى القلوب قبل العقول أو كالذي يحاول أن ينفي السنة النبوية ويشكك فى الأحاديث أو ينفي المعراج .
ومن ثم هب المنافحون عن الفكر والفكر الإسلامي والفكر الديني على وجه خصوص الخصوص هبوا ودعوا إلى عقد مناظرات لإحداث نوع من الاستفاقة للأمة من سباتها ومن أجل استجلاء الحقيقة أمام الجميع وكشف خبث والاعيب هؤلاء أو العكس إثبات الطرف الثاني بطلان حجية الطرف الأول – وإن كنت أشك في ذلك – لكن للأمانة والموضوعية كان ينبغي قول ذلك والغلبة لصاحب العقل والمنطق والقدرة على التناظرية مدعوة نقلا وعقلا..
حقيق علينا أن نعرف مفهوم المناظرة ،فالمناظرة هي نوع مرتب أو رسمي للمناقشة، وتختلف المناظرة عن المناقشة المنطقية التى تبحث عن الحقيقة كما تختلف عن الجدل المعتمد على البلاغة والإقناع فالمناظرة وإن اعتمد النقاش المنطقي على شئ من العاطفة فهو ينجح ويثبت نفسه عند متابعيه حسب قوة السياق وطريقة الحوار المتقنة و مرونتها .
أما الحجاج فهو آلية ومنهج فى التواصل وبلوغ المعرفة الصحيحة .
فالنص الحجاجي هو النص الجدلى وهو أسلوب كتابه يحلل ويناقش ويعبر عن الآراء ويطرح الأطروحات من خلال تقديم الحقائق والاستدلال والتمييز بين الصواب والخطأ وإعطاء الأمثلة .
فالحجاج هو التبادل الخطابي للحجج طلبا للإقناع عن طريق ما يتيح اللسان الطبيعي المستعمل ككفاءة لغويّة محددة من الناحيتين اللسانية والتداولية أي فى طريقة الطرح والمناقشة.
وتتعلق دراسة الحجاج بعدة مجالات تشمل المنطق والبلاغة وفلسفة اللغة واللسانيات وتحليل الخطاب وفن المناظرة والحوار.
نأتي إلى سؤال مهم قد يخطر على بال القارئ الكريم ، هذا السؤال لماذا الجمع بين المنتظرة وعلم الحجاج ، الإجابة واضحة لا المناظرة فرع من فروع علم الحجاج فطريق التناظر يبدأ في دراسة علم الحجاح..
وثم سؤال آخر مجرد سؤال (ليس خبيثا)، لم الآن بالذات ، ظهر هذا الكيان المسمى تكوين ، نعلم جيدا أن ثم كيانات ملئت وطننا العربي والإسلامي تارة تعمل في الخفاء وتارة تعمل فى العلن مع أخذ حيطة التورية تبدو للناس أنها منظمات لتطوير الفكر وتدس السم في العسل ومن هنا لابد الانتباه جيدا لكل شاردة وواردة تصدر عن مثلث هذه الكيانات خصوصا ما يخص المعتقد لماذا ، لأنها توجه جل اهتمامها إلى البسطاء عامي الدين.
ولنا أن نتعرض بتقليل من التفصيل عن فكرة التناظر والمناظرة والحجاج والمحاججة في القرآن الكريم ، فنجد ما دار بين إبراهيم عليه السلام والملك النمرود ، هل يدخل في باب المناظرة أم الحجاج ، نقول مناظرة من قبل النمرود لأنه يفتقد الحجة المنطقية ، حجاح من قبل سيدنا إبراهيم ، لأنه عليه السلام يمتلك الحجة العقلية والنقلية ، إبراهيم يقول ربي الذي يحي ويموت ، يرد النمرود ويقول أنا أحي واميت وفلسفة الأنا هنا تبطل الحجية لأن من يقول أنا فلا حجة له لأن حجته ستخضع للذاتية دون الموضعية وهذا ينسف المناظرة ، أما إبراهيم فطرح الأنا جانبا ، وكذلك مناظرة قوم إبراهيم له في واقعة تحطيمه الأصنام ، ورده عليهم ، انظروا إلى إنتقال إبراهيم من المناظرة إلى المحاجحة ، أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم ، أنظروا كيف نسف مناظرتهم وكيف أقام الحجة عليهم اسألوا كبيرهم ، ردوا قائلين لقد علمت ما هؤلاء ينطقون ، ثم يخاطبهم متعقلا اتعبدون ما لا ينطقون وما لا يعقلون.
ثم اختتمت هذه المناظرات فى سورة الأنعام بالخطاب العقل نقلاني ، (وحآجه قومه قال أتحآجوني فى الله وقد هدان)، وقبلها (قال يا قوم إني برئ مما تشركون).
ثم خطاب العقل والنقل في تناظرية إبراهيم مع ربه -قياس النظير أو التمثيل القاصر أو قياس المشابهة لتأكيد الإفهام والأفهام عن القوم من أهل الجدل والتناظر والحجاج فى كل عصور الفكر الإنساني ، عندما طلب إبراهيم من ربه أن يريه كيف يحي الموتى ، تبدأ بالسؤال الاستفهامي ، يأتيه الرد الاستنكاري ، أولم تؤمن ، جاء رد إبراهيم قال بلي ، تحقيق الإيمان ، لو قال نعم لنسفت القاضية من أساسها ولهدمت ملة أبينا إبراهيم عليه السلام لكن لكي يطمئن القلب اطمئنانا يرتاح معه العقل وتهدأ ثأرته.
لكن ما أهم الضوابط التي ينبغي توافرها فى المتناظرين ؟!
الذي يحدد هذه الضوابط طبيعة الموضوع محل التناظر ، فلو كان موضوعا دينيا يتعلق بالدين أي دين وأي شريعة لابد من توافر ضوابط أن يكون المتناظرون على مستور رفيع من الفهم الديني.
أن يكون المتناظرون مشهود لهم بالتقى والعفاف والصلاح بين الناس.
أن يكونوا من أهل الحل والعقد والتأثير على المتلقى.
أن يكونوا بعيدون تماما عن السلطة الحاكمة حتى لا تتأثر مناظراتهم بما يملى عليهما من أملاءات .
ضرورة ملحة فى المتناظريين توافر رجاحة العقل والفطنة والكياسة.
هذا بالنسبة للمناظرات الدينية.
أما المناورات الفكرية في أي موضوع آخر سواء سياسي أو إجتماعي ، أو ثقافي ، أو فلسفي.
فالضابط الرئيس ها هنا رجاحة العقل وحجة المنطق والثقافة الموسوعية والخبرة الكبيرة كل فى تخصصه.
أما عن أنواع المناظرات فثم نوعان ، مناظرات علانية ، وأخرى سرية ، وأرجح السرية بمعني لا يحضرها إلا العلماء من أهل التخصص وتسمى بمناظرات الأروقة المغلقة حتى لا تثار الفتن وتحدث البلبلة عند البسطاء من الناس، خصوصا فى الموضوعات الدينية الحساسة والشائعة ومن الممكن إعلان نتائجها عن طريق الثقاة الذين حضروها دون زيادة أو نقصان.