بقلم: أ.د عبد الشافي الشيخ
أستاذ الدراسات العليا بجامعة الأزهر الشريف
يقول الله تعالى فى الآيتين ٧٧ و٧٨ من سورة آل عمران: “إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ”.
تُوضّح الآيةُ الأولى أن اللذين يبيعون عهد الله، ويبيعون أيمانهم، أي يخونون العهد ويقطعونه، ويحنثون في إيمانهم التي أخذوها على أنفسهم بينهم وبين الله، لأنهم عاهدوا الله على الإيمان وعلى السمع والطاعة لله وحده لا شريك له، ومهما أخذوا ثمنا مقابل كفرهم بالله فهو ثمن قليل، لأن الدنيا كلّها متاعها قليل، ولا تساوي عند الله جناحَ بعوضة أو أقل، ولذلك وُصِف الثمنُ بأنه قليل، نعم كل متعةٍ في الدنيا أمامَ ما أعدّه الله في الجنة لعباده الطائعين هو قليل، لأنها نعم زائلة، ومن خصائص نعم الدنيا وملذاتها أنها إما أن تزول عنك، وإما أن تزول أنت عنها بالموت، فهي قليل أمام النعيم الدائم في الجنة، وجزاء هؤلاء الذين يخونون عهد الله أنه لا نصيب لهم من رضوان الله يوم القيامة، فالخلاق هو النصيب، والمقصود نصيبهم من رضوان الله ومغفرته وعفوه وثوابه، وإلا فقطعًا لهم نصيبٌ آخر ينتظرهم وهو نصيبهم من العذاب والعقاب وسوء المآل، وخصّها بالآخرة لأنه قد يكون للكافرين والعاصين نصيبٌ في الدنيا، فلا يغرّنك عطاءُ الله في الدنيا لأنه ليس دليلا على محبة الله للعبد ولا رضاه عنه، فالله يعطي الدنيا لمن أحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن أحب، ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة نظرة رحمة وشفقة، بل ينظر إليهم نظرة عتاب وعقاب فيتساقط لحم وجوههم خجلا من الله تعالى.
ولا يزكيهم، والزكاة هي: النماء والمراد أن الله لا يباركهم ولا يزيدهم إلا من العذاب المستحق، وبعد كل ما تقدم أوضح القرآن أن لهم عذاب أليم يؤلمهم جسديا ونفسيا، جزاء ما آلموا المؤمنين في الدنيا ليردّوهم عن دين الله.
ثم أوضح القرآن في مصداقية منقطعة النظير أن منهم وليس جميعهم، حتى لا يعترض أحدٌ على أحكام القرآن فيعبّر عنهم بالبعضيّة والتبعيض، أي فريق من اللذين أوتوا الكتاب يضللون الناس، ويغمّون عليهم الحقائق، فيلوُون ألسنتهم بالكتاب أي ينطقون بكلمات تُلبس على الناس العوام وتُشعرهم بأنها من الكتاب الصحيح، ولكنهم في حقيقة الأمر يكذبون على الله، ويخبئون من النصوص ما يتعارض وهدفَهم الرخيص، وبالفعل يُلبسون على الناس أمر دينهم فيحسبوا كلامهم من الكلام المنزل من رب العالمين، والحقيقة أنه ليس كذلك، وما هو من الكتاب، ويكذبون على الله تعالى في الأحكام، ويقولون هو من عند الله، ليعطوه القداسة الإلهية، والأصل أنه أيضا ليس من عند الله، بل من عند أنفسهم ليضلوا به عوام الناس ويبعدونهم عن الطريق المستقيم، ويقولون على الله الكذب، وكثيرا ما رصد القرآن الكريم عليهم هذه الادعاءات المكذوبة، وتتبّعها بالنقض والتكذيب، وتبرئة ساحةِ الله تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
والعجيب أنهم يعلمون أن الله برئ مما يقولون، ويعلمون تمام العلم أنهم يكذبون على الله، وهذا ما يجعل عقابُهم أشد، وجرمُهم أكبر لأنهم يعصون الله على علم مع سبق الإصرار.