كل عام وعالمنا الإسلامي بخير، فقد هلَّ علينا شهر عظيم، شهر القراء، شهر شعبان، الذي هو مُقدِّمة لشهر رمضان.
فشعبان ورمضان أخوان كريمان، وشهران مباركان، حبيبان إلى المؤمنين والمؤمنات، تتطلع فيهما القلوب إلي بشائر الرحمة التي لا يعلم مقدار قدرها إلا الله تعالى.
شهر شعبان هو شهر التدريب والتأهيل التربوي والرباني؛ حتى يتهيأ الإنسان استعدادًا لرمضان، وهو شهر ترويض النفس على طاعة الله.
كما أن لكل منَّا صحائف تسجَّل فيها الأعمال وهي تُرفع في كل عام في شهر شعبان! فعن سيدنا أسامة بن زيد- رضي الله عنه- أنه قال:
يا رسولَ اللَّهِ، لم أرك تَصومُ شَهْرًا منَ الشُّهورِ ما تصومُ من شعبانَ؟! قالَ: “ذلِكَ شَهْرٌ يَغفُلُ النَّاسُ عنهُ بينَ رجب ورمضانَ، وَهوَ شَهْرٌ تُرفَعُ فيهِ الأعمالُ إلى ربِّ العالمينَ، فأحبُّ أن يُرفَعَ عمَلي وأَنا صائمٌ”.
فقد بيَّن نبيّنا المصطفى- صلى الله عليه وسلم- أنه يحب أن يكون صائمًا عندما يرفع عمله.
والناس غالبًا يغفلون عن شهر شعبان إلا من رحم الله، وذلك أن اجتهادهم يكون في شهر رجب المشهور بينهم عرفًا وفي رمضان المشهور شرعًا وهذا جعلهم يغفلون عن الطاعة في شعبان، وينبغي أن نعلم أن رفع الأعمال لا يقتصر على شهر شعبان وإنما هناك أربع صور لرفع الأعمال: وهي الرفع اليومي والأسبوعي والسنوي والختامي.
ولو نظرنا إلى واقع الصحابة والتابعين رضوان الله عنهم لرأيناهم يستعدون لشعبان كما يستعدون لرمضان؛ فعن لؤلؤة مولاة سيدنا عمار قالت: “كان سيدنا عمار- رضي الله عنه- يتهيَّأ لصوم شعبان كما يتهيَّأ لصومِ رمضانَ”.
لقدْ كانوا يهتمون بهذا الشهر اهتمامًا خاصًّا؛ لِمَا عرفوا من نفَحَاته وكَرَاماته، فكانوا ينكبّون على كتاب الله يتلونه ويتدارسونه، ويتصدّقون من أموالهم، ويتسابقون إلى الخيرات، وكأنهم يهيّئون قلوبهم لاستقبال نفحات رمضان الكبرى، حتى إذا دخل عليهم رمضان دخل عليهم وقلوبهم عامرة بالإيمان وألسنتهم رطبة بذكر الله، وجوارحهم عفيفة عن الحرام طاهرة نقية فيشعرون بلذة القيام وحلاوة الصيام، ولا يملّون من الأعمال الصالحة؛ لأن قلوبهم خالطتها بشاشة الإيمان وتغلغل نور اليقين في أرواحهم.
وكانوا إذا أقبل عليهم شهر شعبان تفرغوا لقراءة القرآن الكريم ويقولون “شهرُ شعبان شهرُ القُرَّاء”.
بل كانوا يقولون: شهر رجب هو شهر الزرع، وشهر شعبان هو شهر سقي الزرع، وشهر رمضان هو شهر حصاد الزرع، بل شبَّهوا شهر رجب بالريح، وشهر شعبان بالغيم، وشهر رمضان بالمطرِ، ومن لم يزرع ويغرس في رجب، ولم يسق في شعبان، فكيف يريد أن يحْصدَ في رمضان؟!
لذا فكل عبادة متأكَّدة في رمضان فإنه يحسن بنا أن نكثر منها في شعبان استعداداً وتهيؤاً، فمن الأعمال التي يمكن للمؤمن أن يعملها في شعبان:
– الصوم: وهو من أعظم ما يفعل في هذا الشهر، وقد قيل في صوم شعبان أن صيامه كالتمرين على صيام رمضان لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكلفة بل يكون قد تمرَّن على الصيام واعتاده ووجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصيام ولذَّته فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط.
وتقول السيدة عائشة- رضي الله عنها-: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر منه صياماً في شعبان.
وعنها أيضا: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهراً أكثر من شعبان فإنه كان يصوم شعبان كله وكان يقول: (خذوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا).
– قراءة القرآن: لأن القرآن نزل وعورض في رمضان وشعبان تقدمة له.
قال سيدنا أنس- رضي الله عنه-: كان المسلمون إذا دخل شعبان أكبّوا على المصاحف فقرؤوها وأخرجوا زكاة أموالهم تقوية لضعيفهم على الصوم.
– ذكر الله تعالى: والذكر له شأن كبير في حياة المؤمن، كيف لا وقد ورد الذكر في ثلاثمائة آية في القرآن الكريم، كل هذه الآيات تؤكد أنه ينبغي أن يدور مع الإنسان في كل شؤونه، وفي كل أحواله، وفي كل أطواره، لأن الذكر عبادة القلب، فإذا كانت الصلاة عبادة الجوارح، فالذكر عبادة القلب، بل إن الصلاة من أجل الذكر:(وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي).
وقال رسول اللَّه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ، فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ، وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟ قَالُوا: وَذَلِكَ مَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ”
ـ قيام الليل: من أفضل العبادات التي ترفع الدرجات، وتزيد في الحسنات، وتكفِّر السيئات، وتقرِّب من ربِّ البريات، وقد جاء الترغيب في قيام الليل، في كتاب الله تعالى وفي السنة المطهرة فقال سبحانه وتعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ}، وقال رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام: {عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى الله تعالى، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم، ومطردة للداء عن الجسد}.
فالفرار في هذا الوقت إلى الله الكريم يعني أن نتعلم كيف نغير ما بأنفسنا حتى يغير الله الكريم أحوالنا لما يحب ويرضى، يعني الطلب الفعلي للثبات على الحق والعطاء في خير والصبر في البلاء والحب والمودة في كل شئ، فتعاظم الواجبات في ضيق الوقت وعسر الحياة وصعابها يشوقنا إلى وقت قصير نهرب فيها من كل الكبد كي نعود بقوة لمواجهته.
اللهم بارك لنا في شعبان وبلِّغنا رمضان غير فاقدين ولا مفقودين.