من الكلمات التي لها تأويل شرعي صحيح كلمة [مدد] التي يُردِّدها بعض الصوفية، فينادي بها أحدهم رسول الله أو يخاطب بها شيخه.
وحجَّة المعترِض عليهم أن هذه الكلمة هي سؤال لغير الله واستعانة بسواه ولا يجوز السؤال إِلا له ولا الاستعانة إِلا به؛ حيث قال رسول الله: “إِذا سألت فاسأل الله، وإِذا استعنت فاستعن بالله” [أخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما. وقال: حديث حسن صحيح]، ثم إِن الله تعالى بيَّن في كتابه العزيز أنه هو مصدر الإِمداد حين قال: {كُلاً نُمِدُّ هؤلاء وهؤلاء مِنْ عطاءِ ربِّك…} [الإِسراء: 20].
وقد جهل هؤلاء المعترضون أن السادة الصوفية (الحق) هم أهل التوحيد الخالص، الذين يأخذون بيد مريديهم ليذيقوهم حلاوة الإِيمان، وصفاء اليقين؛ ويخلصوهم من شوائب الشرك في جميع صوره وأنواعه.
ولتوضيح المراد من كلمة [مدد] نقول: لابد للمؤمن في جميع أحواله أن تكون له نظرتان:
– نظرة توحيدية لله تعالى، بأنه وحده مسبب الأسباب، والفاعل المطلق في هذا الكون، المنفردُ بالإِيجاد والإِمداد، ولا يجوز للعبد أن يشرك معه أحداً من خلقه، مهما علا قدره أو سمت رتبته من نبي أو ولي.
– ونظرة للأسباب التي أثبتها الله تعالى بحكمته، حيث جعل لكل شئ سبباً.
فالمؤمن يتخذ الأسباب ولكنه لا يعتمد عليها ولا يعتقد بتأثيرها الاستقلالي، فإِذا نظر العبد إِلى السبب واعتقد بتأثيره المستقل عن الله تعالى فقد أشرك، لأنه جعل الإِله الواحد آلهة متعددين. وإِذا نظر للمسبِّب وأهمل اتخاذ الأسباب، فقد خالف سنة الله الذي جعل لكل شئ سبباً. والكمال هو النظر بالعينين معاً، فنشهد المسبِّبَ ولا نهمل السبب. ولتوضيح هذه الفكرة نسوق بعض الأمثلة عليها:
– إِن الله تعالى وحده هو خالق البشر؛ ومع ذلك فقد جعل لخلقهم سبباً عادياً، وهو التقاء الزوجين، وتكوُّنُ الجنين في رحم الأم، وخروجه منه في أحسن تقويم.
– وكذلك فإِن الله تعالى هو وحده المميت؛ ولكنه جعل للإماتة سبباً هو ملك الموت، فإِذا لاحظنا المسبب قلنا: {اللهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ…} [الزمر: 42].
وإِذا قلنا: إِن فلاناً قد توفاه ملك الموت، لا نكون قد أشركنا مع الله إِلهاً آخر؛ لأننا لاحظنا السبب، كما بيّنه الله تعالى في قوله: {قُلْ يتوَفاكُمْ مَلَكُ الموتِ الذي وُكِّلَ بِكُم} [السجدة: 11].
– وكذلك فإِن الله تعالى هو الرزاق، ولكنه جعل للرزق أسباباً عادية كالتجارة والزراعة، فإِذا لاحظنا المسبب في معرض التوحيد، أدركنا قوله تعالى: {إنَّ اللهَ هوَ الرَّزَّاقُ ذو القوَّةِ المتِينُ} [الذاريات: 58]. وإِذا لاحظنا السبب وقلنا: إِن فلاناً يُرزَقُ من كسبهِ، لا نكون بذلك قد أشركنا، فرسول الله يقول: “ما أكل أحدٌ طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده” [أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب البيوع، باب كسب الرجل وعمله بيده، عن المقدام رضي الله عنه]. وقد جمع الرسول بين النظرتين توضيحاً للأمر وبياناً للكمال في قوله: “وإِنما أنا قاسم والله يعطي” [أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب العلم، باب من يرد الله به خيراً، عن معاوية رضي الله عنه].
– وكذلك الأمر بالنسبة للإِنعام، ففي معرض التوحيد قوله تعالى: {وما بِكُم مِنْ نِعمَةٍ فَمِنَ اللهِ} [النحل: 53]. لأنه المنعم الحقيقي وحده. وفي معرض الجمع بين ملاحظة المسبِّب والسبب قوله تعالى: {وإذْ تَقولُ للذي أَنْعَمَ اللهُ عليهِ وأنْعَمْتَ عليه…} [الأحزاب: 37]. فليس الرسول شريكاً لله في عطائه، وإِنما سيقت النعم لزيد بن حارثة رضي الله عنه بسببه، فقد أسلم على يديه، وأُعتِقَ بفضله، وتزوج باختياره.
– وكذلك بالنسبة للاستعانة، إِذا نظرنا للمسبب قلنا: “إِذا استعنْتَ فاستعن بالله”. وإِذا نظرنا للسبب قلنا: {وتعاونوا على البرِّ والتقوى} [المائدة: 2]. “والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه” [أخرجه مسلم في كتاب الذكر، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن، عن أبي هريرة رضي الله عنه. فإِذا قال المؤمن لأخيه: أَعِنِّي على حمل هذا المتاع؛ لا يكون مشركاً مع الله تعالى أحداً أو مستعيناً بغير الله، لأن المؤمن ينظر بعينيه، فيرى المسبِّب والسبب، وكل من يتهمه بالشرك فهو ضال مضل.
– وهكذا الأمر بالنسبة للهداية؛ إِذا نظرنا للمسبب، رأينا أن الهادي هو الله وحده، لهذا قال الله تعالى لرسوله: {إنَّكَ لا تهدِي مَنْ أحبَبْتَ} [القصص: 56]. وإِذا لاحظنا السبب، نرى قول الله تعالى لرسوله: {وإنَّكَ لَتَهدي إلى صراطٍ مُستَقيمٍ} [الشورى: 52]. أي تكون سبباً في هداية من أراد الله هدايته.
والعلماء العارفون المرشدون هم ورثة الرسول في هداية الخلق ودلالتهم على الله تعالى. فإِذا استرشد مريد بشيخه، فقد اتخذ سبباً من أسباب الهداية التي أمر الله بها، وجعل لها أئمة يدلون عليها {وجَعَلْنا مِنْهُم أَئِمَّةً يَهدُونَ بأمرِنا لمَّا صَبَروا وكانوا بآياتِنا يوقِنونَ} [السجدة: 24].
وصلة المريد هي صلة روحية، لا تفصلها المسافات ولا الحواجز المادية، وإِذا كانت الجُدُر والمسافات لا تفصل أصوات الأثير فكيف تفصل بين الأرواح المطلقة؟! لذا قالوا: (شيخك هو الذي ينفعك بُعدُه كما ينفعك قربُه) وبما أن الشيخ هو سبب هداية المريد؛ فإِن المريد إِذا تعلق بشيخه، وطلب منه المدد، لا يكون قد أشرك بالله، لأنه يلاحظ هنا السبب، كما أوضحناه سابقاً، مع اعتقاده أن الهاديَ والمُمِدَّ هو الله، وأن الشيخ ليس إِلا سبباً، أقامه الله لهداية خلقه، وإِمدادهم بالنفحات القلبية، والتوجيهات الشرعية. ورسول الله هو البحر الزاخر الذي يستمد منه هؤلاء الشيوخ وعنه يصدرون.
فإِذا سلّمنا بقيام الصلة الروحية بين المريد وشيخه، سلّمنا بقيام المدد المترتب عليها، لأن الله يرزق البعض بالبعض في أمر الدين والدنيا.
ولعل القارئ الكريم بعد هذا، قد اكتفى بهذه الأمثلة من كلام القوم، وبتلك النقول الصريحة من عباراتهم، حتى إِذا ما رأى كلاماً مشتبهاً يحتمل ويحتمل، أحسن الظن بهم، والتمس سبلاً لتأويل كلامهم بعد أن تبين له أن التأويل جائز في كلام الله تعالى وسنة رسوله وكلام الفقهاء والمحدثين والأصوليين والنحويين وغيرهم. ولهذا قال الإِمام النووي رحمه الله: (يحرم على كل عاقل أن يسيئ الظن بأحد من أولياء الله، ويجب عليه أن يؤول أقوالهم وأفعالهم مادام لم يلحق بدرجتهم، ولا يعجز عن ذلك إِلا قليل التوفيق) .