لعل طبيعة الأمراض النفسية التي تؤثر على العقل والحكم على الأمور، تجعل من علاقة الطب النفسي بالقانون والقضاء مسألة مهمة لا توجد بالنسبة لفروع الطب الأخرى، والمرضى النفسيون قد يخرجون على قوانين المجتمع فيرتكبون المخالفات والجرائم تحت تأثير حالتهم المرضية، وبرغم أنهم لا يمثلون خطرا على أنفسهم أو على الآخرين إلا في حالات محدودة ، وتذكر الأرقام أن المرضى النفسيين ليسوا أكثر ارتكابا للجرائم من الأسوياء كما هو الانطباع السائد عند عامة الناس.
فمن بين ما يقرب من 2 مليون من جرائم العنف التي ترتكب في الولايات المتحدة سنويا منها 23 ألف جريمة قتل لا يقوم المرضى النفسيون بدور الجاني إلا في نسبة محدودة من هذه الجرائم لا تصل إلى 30%، وتكون هناك علاقة قرابة أو صداقة في نسبة 75% من هذه الحالات بين الجاني والضحية، ولا تزيد نسبة الجرائم البسيطة الأخرى التي يرتكبها المرضى النفسيون ممن لا مأوى لهم والعاطلون عن العمل عن ثلث عدد هذه الجرائم، ويرتكب الرجال جرائم القتل بنسبة تزيد 11 مرة عن السيدات، وبالنسبة للضحايا فإن عدد النساء يمثل ثلث عدد الرجال، وفي إحصائيات أخرى فإن نسبة 30% ممن يرتكبون جرائم القتل يقدمون على الانتحار فيما بعد، ونسبة 40% منهم يصابون بفقد جزئي للذاكرة بعد الحادث.
ولقد زادت مسألة الاعتراف بالعنف بين المصابين بالأمراض العقلية في السبعينيات عندما أفادت التقارير بأن العاملين في مجال الصحة العقلية لم يتمكنوا من التنبؤ بالعنف بين الأشخاص المصابين بأمراض عقلية على أكثر من مستوي ، ونتيجة لذلك طلب من المعهد الوطني للصحة العقلية أن يفيد بكل دراسة أجريت منذ الستينيات، ووجدت الدراسات أن الأشخاص الذين لديهم سوابق في المستشفيات العقلية يميلون إلى أن يكون لديهم معدلات اعتقال لاحقة أعلى ، وقد تبين من إعادة تحليل هذه الدراسات أن هناك منهجيات معيبة استخدمت، وخلصت دراسات أحدث إلى أن “الحكم السريري فشل في البحوث السابقة”، وأنه باستخدام عوامل تنبؤيه محددة ، من الممكن التنبؤ بالسلوك العنيف بين الأشخاص المصابين بأمراض عقلية على مستوى المزيد من الدراسات الحديثة.
وأفادت دراسة استقصائية أجريت في عام 1992م على ما يقرب من1400 سجين أمريكي أن 7.2 % من السجناء المحتجزين أظهروا أعراضا تتسق مع انفصام الشخصية، أو الاضطراب الثنائي القطب. وأفادت دراسة مماثلة فيما بين السجون الحكومية أيضا بأن أقلية من السجناء لديها أعراض تتسق مع انفصام الشخصية، أو الاضطراب الثنائي القطب. وخلصت الكثير من البحوث الدوليةinternational research إلى أن الأمراض النفسية في حد ذاتها لا تزيد كثيرا من خطر ارتكاب أعمال العنف بالمقارنة مع عامة السكان، ومع ذلك ، فان خطر العنف يزداد بشكل كبير إذا كان الشخص في مرحلة نشطة من الأمراض العقلية الحادة والمستمرة والحالات النفسية المرضية التي ترتبط بسلوك العنف تحدث في حالات مثل اضطراب الشخصيةPersonality disorder ، وهو من أكثر الاضطرابات النفسية ارتكابا للجرائم المختلفة، وهناك قائمة من الأمراض النفسية لها علاقة بسلوك العنف والجريمة نذكر منها اضطرابات السلوك Behaviour disorder ، والاضطراب السلوكي الانفجاري Explosive Behaviour ، والشخصية الحدية Borderline، والوسواس القهري obsessive-compulsive disorder (OCD)، والفصام العقلي schizophrenia، والبارانويا، والهوس الاكتئابيManic dipressive disorder ، كما أن نسبة عالية من الجرائم ترتكب تحت تأثير تعاطي الكحول والمواد المخدرة والعقاقير الأخرى.
كما ذكرت هذه الدراسات أن هناك عوامل ترتبط بسلوك العنف يعود بعضها إلى سوء المعاملة في مرحلة الطفولة، وتاريخ الصدمات النفسية، والتشرد، والبيئات الاجتماعية الضارة والعوامل المسببة للإجهاد، وضعف الإدراك، والأعراض الذهانية، وأنماط التركيب الوراثي، ونادراً ما ذكرت هذه العوامل أو تم تناولها بالشرح أو بحثت في وسائط الإعلام الرئيسة عندما يتم الربط بين الأمراض النفسية والعنف. ويستطيع الطبيب النفسي خلال مقابلة المريض من خلال الملاحظة أن يستشف بعض الدلائل على خطورة المريض، منها تعبيرات عدم المبالاة، أو الغضب، أو الشعور بالذنب، أو الإحساس بالضياع وعدم الحيلة، وفي هذه الحالة يكون على الطبيب تهدئة المريض، والتخفيف من انفعاله، والاستفسار منه عن كل ما يدور بذهنه من أفكار واتجاهاته نحو الآخرين، ومن خلال ذلك يمكن التنبؤ بدرجة الخطورة والميل إلى ارتكاب أعمال عنف في حدود إمكانات الممارسة النفسية .
وفي حالة ارتكاب المريض النفسي لأحد الجرائم يقوم الطبيب النفسي بفحص الحالة العقلية للمتهم, وهنا تتم التفرقة بين الإصابة بأمراض عقلية شديدة، وبين الحالات النفسية البسيطة التي لا تؤثر على الحكم على الأمور، وذلك من خلال بعض الإجراءات مثل مراجعة الطبيب للتاريخ المرضي للشخص من خلال أية ملفات لعلاج سابق له في العيادات أو المستشفيات، وكذلك تقييم الحالة العقلية للمريض من المقابلة النفسية، وكذلك يمكن اللجوء إلى عمل بعض الاختبارات النفسية للمريض وفحص الجهاز العصبي، وتخطيط المخ للمساعدة في الوصول إلى التشخيص.
ويعفي القانون المريض النفسي من المسئولية عما يفعل إذا أثبت الدفاع أن الشخص لا يستطيع أن يميز بين الصحيح والخطأ، فإن ذلك يكفى لإعفاء المتهم من المسئولية، حيث إن الجريمة من المفترض أن لها عنصرين هما، الفعل السيئ في حق الآخرين، وتوافر النية أو القصد، وهذا ما يصفه القانون أحيانا بسبق الإصرار والترصد، وبالنسبة للمرضى النفسيين فإن أحد عنصري الجريمة وهو القصد لا يتوافر، فالمريض أو المجنون مثل الطفل الذي يكسر شيئا ثمينا وهو يلهو دون أن يدرك حقيقة ما يفعل، ومن هنا كانت القواعد القانونية التي تعفي المريض العقلي من المسئولية عما يقوم به اذا كان في أثناء ذلك في حالة لا يستطيع أن يميز فيها بين الصواب والخطأ.
ونظرا للغموض الذي يكتنف عالم المرض النفسي والأمراض النفسية، فإن الحاجة إلى المعلومات التي تقدمها وسائل الإعلام عنه تزداد بشكل أكبر ويزداد اعتماد الجمهور على تلك المعلومات في بناء اتجاهاتهم حوله، وكشفت بعض الدراسات الإعلامية وجود صلات بين تصوير المرضى النفسيين في وسائل الإعلام والسلوك العنيف، وقد وجدت العديد من الدراسات المتعلقة بالبيانات الإعلامية والرأي العام روابط قوية بين الامراض العقلية وتزايد ميل الآخرين إلى العنف، وبصفة عامة أوضحت الدراسات أن محتوى وسائط الإعلام التي تناولت المرض النفسي لا تزال تنسب الأعمال العنيفة والخطرة إلى الأشخاص المصابين بالأمراض النفسية والعقلية، وهناك الكثير من الصور السلبية التي تعكس أبعاد وصمة العار هذه. وأوضحت الدراسات أن وسائل الإعلام غير الخيالية ( الجرائد – المجلات – البرامج التليفزيونية) لا تزال هي المصدر الرئيس في الحصول على المعلومات عن المرض النفسي لدى الجمهور العام، ولذلك فإن هذه الوسائل تمثل أهمية كبرى بالنسبة لهم ويقع على عاتقها إبراز الصورة الحقيقة عن المرض النفسي وتقريبه من أذهان الجماهير وذلك لسد الفجوة الكبيرة في فهم الجمهور للمرض النفسي، وذلك يمكن أن يتم من خلال تكتيكات داعمة تشمل إنشاء موقع على شبكة الإنترنت للإعلامين للوصول إلى مصادر ومعلومات واقعية، وكذلك عقد اجتماع مع الإعلامين والباحثين لتبادل نتائج البحوث والحديث عن الدقة في تناول الأخبار والاتصال الدائم مع الأشخاص المصابين بأمراض عقلية ولديهم الاستعداد النفسي لتبادل قصص التعافي 0 وإجراء دورات تدريبية إعلامية مع المستهلكين ومقدمي الخدمات للوصول إلى الصورة الصحيحة للمرض النفسي
وفي النهاية فإن المرضى النفسيين من أكثر الفئات حاجة إلى الرعاية والمساندة، وكثيرا ما يحدث أن يرتكب المريض النفسي بعض الأفعال التي لا يرضى عنها أحد ، أو قد يتسبب في إيذاء نفسه أو ايذاء الآخرين، فالمريض العدواني قد يوجه الإساءة إلى أقرب الناس إليه من أهله أو من يقومون على رعايته، والمرضى هنا، وهم يرتكبون جرائم العنف الدموية، أو يقدمون على الانتحار، إنما يفعلون ذلك بحكم إصابتهم بالمرض النفسي الذي يتسبب في تشويه حكمهم على الأمور من تأثير الاكتئاب الذي يؤدي إلى حالة من اليأس يرى فيها المريض الحياة على أنها عبء لا يطاق، أو الأفكار المرضية والهلاوس في صورة أصوات توحي إلى مريض الفصام بمهاجمة الآخرين بعد أن تسلب إرادته. والمريض النفسي الذي يبدو هنا مجرما أو ظالما هو مظلوم في الحقيقة، لأنه لم يحصل على علاج فعال قبل أن تتدهور حالته.